الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: العقد الفريد **
قال الفقيه أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله: قد مضى قولنا في الطعام والشراب وما يتولد منهما وينسب إليهما. ونحن قائلون بما ألفناه في كتابنا هذا من الفكاهات والملح التي هي نزهة النفس وربيع القلب ومرتع السمع ومجلب الراحة ومعدن السرور. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن القلوب إذا كلت عميت ". وقال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: أجموا هذه القلوب والتمسوا لها طرف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان. والنفس مؤثرة للهوى آخذة بالهوينى جانحة إلى اللهو أمارة بالسوء مستوطئة للعجز طالبة للراحة نافرة عن العمل فإن أكرهتها أنضيتها وإن أهملتها أرديتها. ودخل عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز على أبيه عمر وهو ينام نومة الضحى فقال: يا أبت أتنام وأصحاب الحوائج راكدون ببابك قال: يا بني إن نفسي مطيتي فإن أنضيتها قطعتها وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضحك حتى تبدو نواجذه. وكان محمد بن سيرين يضحك حتى يسيل لعابه. وقال صلى الله عليه وسلم: " لا خير فيمن لا يطرب ". وقال: " كل كريم طروب ". وقال هشام بن عبد الملك: أكلت الحلو والحامض حتى ما أجد لواحد منهما طعماً وشممت الطيب حتى ما أجد له رائحة وأتيت النساء حتى ما أبالي امرأة أتيت أم حائطاً ما وجدت شيئاً ألذ إلي من جليس تسقط بيني وبينه مؤونة التحفظ. وقيل لعمر بن العاصي: ما ألذ الأشياء قال: ليخرج من ها هنا من الأحداث. فخرجوا فقال: ألذ الأشياء إسقاط المروءة. وقيل لمسلمة بن عبد الملك: ما ألذ الأشياء فقال: هتك الحياء واتباع الهوى. وهذه المنزلة من إهمال النفس وهتك الحياء قبيحة كما أن المنزلة الأخرى من الغلو في الدين والتقشف في الهيئة قبيحة أيضاً وإنما المحمود منها التوسط وأن يكون لهذا موضعه وهذا موضعه. وقال مطرف بن عبد الله لولده: " يا بني إن الحسنة بين السيئتين - يريد بين المجاوزة والتقصير - وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ". وفي بعض الكتب المترجمة: إن يحنا وشمعون كان من الحواريين وكان يحنا لا يجلس مجلساً إلا ضحك وأضحك من حوله وكان شمعون لا يجلس مجلساً إلا بكى وأبكى من حوله فقال شمعون ليحنا: ما أكثر ضحكك كأنك قد فرغت من عملك فقال له يحنا: ما أكثر بكاءك كأنك قد يئست من ربك فأوحى الله إلى المسيح: أن أحب السيرتين إلي سيرة يحنا. وفي بعض الكتب أيضاً أن عيسى بن مريم لقي يحيى بن زكريا فتبسم إليه يحيى فقال له عيسى: إنك لتبسم تبسم آمن! فقال له يحيى: إنك لتعبس عبوس قانط! فأوحى الله إلى عيسى: " إن الذي يفعل يحيى أحب إلي ". وقال النبي صلى الله عليه وسلم دخل نعيمان الجنة ضاحكاً لأنه كان يضحكني ". وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه وهو أرمد فوجده وهو يأكل تمراً فقال له: أتأكل تمراً وأنت أرمد فقال: إنما آكل من الجانب الآخر. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. وكانت سويداء لبعض الأنصار تختلف على عائشة فتلعب بين يديها وتضحكها وربما دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة فيجدها عندها فيضحكان جميعاً ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم فقدها فقال: يا عائشة ما فعلت السويداء قالت له: إنها مريضة. فجاءها النبي صلى الله عليه وسلم يعودها فوجدها في الموت فقال لأهلها: إذا توفيت فآذنوني. فلما توفيت آذنوه فشهدها وصلى عليها وقال: " اللهم إنها كانت حريصة على أن تضحكني فأضحكها فرحاً ". وقيل لأبي نواس: قد بعثوا إلى أبي عبيدة والأصمعي ليجمعوا بينهما فقال أما أبو عبيدة فإن خلوه وسفره قرأ عليهم أساطير الأولين والآخرين وأما الأصمعي فبلبل في قفص يطربهم بصفيره. قال ابن إسحاق: وقد طرب الصالحون وضحكوا ومزحوا. وإذا مدحت العرب رجلاً قالوا: هو ضحوك السن بسام الهشيات هش إلى الضيف. وإذا ذمته قالت: هو عبوس الوجه جهم المحيا كريه المنظر حامض الوجنة كأنما وجهه بالخل منضوح وكأنما أسقط خيشومه بالخردل. وكتب يحيى بن خالد إلى الفضل ابنه وهو بخراسان: " يا بني لا تغفل نصيبك من الكسل ". وهذا حرف جامع لما قصدناه من هذا المعنى لأن بالكسل تكون الراحة وبالراحة يثوب النشاط وبالنشاط يصفو الذهن ويصدق الحس ويكثر الصواب. قال الشاعر: ولنا ما كان فينا من فساد وصلاح الهيثم بن عدي قال: رأيت هشام بن عروة قد اجتمع إليه أصحاب الحديث يسألونه فقال لهم: يا قوم أما ما كان عندي من الحلال والحرام والسنة فإني لا أستحل أن أمنعكموه وأما ملحي فلا أعطيكموها ولا كرامة.
حديث عباس بن الأحنف حدث أبو العباس النحوي المعروف بالمبرد قال: حدثنا محمد بن عامر الحنفي وكان من سادات بكر بن وائل وأدركته شيخاً كبيراً مملقاً وكان إذا أفاد على إملاقه شيئاً جاد به وقد كان قديماً ولي شرطة البصرة فحدثني هذا الحديث الذي نذكره. ووقع إلي من غير ناحيته ولا أذكر ما بينهما من الزيادة والنقصان إلا أن معاني الحديث مجموعة فيما أذكر لك: ذكر أن فتياناً كانوا مجتمعين في نظام واحد كلهم ابن نعمة وكلهم قد شرد عن أهله وقنع بأصحابه فذكر ذاكر منهم قال: كنا قد اكترينا داراً شارعة على أحد طرق بغداد المعمورة بالناس فكنا نفلس أحياناً ونوسر أحياناً على مقدار ما يمكن الواحد من أهله وكنا لا نستكثر أن تقع مؤونتنا على واحد منا إذا أمكنه ويبقى الواحد منا لا يقدر على شيء فيقوم به أصحابه الدهر الأطول. وكنا إذا أيسرنا أكلنا من الطعام ألينه ودعونا الملهين والملهيات. وكان جلوسنا في أسفل الدار فإذا عدمنا الطرب فمجلسنا غرفة لنا نتمتع منها بالنظر إلى الناس وكنا لا نخل بالنبيذ في عسر ولا يسر. فإنا لكذلك يوماً إذا بفتى يستأذن علينا فقلنا له: اصعد. فإذا رجل نظيف حلو الوجه سري الهيئة ينبئ رواؤه على أنه من أبناء النعم فأقبل علينا فقال: إني سمعت مجتمعكم وحسن منادمتكم وصحة ألفتكم حتى كأنكم أدرجتم جميعاً في قالب واحد فأحببت أن أكون واحداً منكم فلا تحتشموا. قال: وصادف ذلك منا إقتاراً من القوت وكثرة من النبيذ. وقد كان قال لغلام له أول ما يأذنون لي أن أكون كأحدهم: هات ما عندك فغاب الغلام عنا غير كثير ثم إذا هو قد أتانا بسلة خيزران فيها طعام المطبخ: من جدي ودجاج وفراغ ورقاق وأشنان ومحلب وأخلة فأصبنا من ذلك ثم أفضنا في شرابنا وانبسط الرجل فإذا أحلى خلق الله إذا حدث وأحسنهم استماعاً إذا حدث وأمسكهم عن ملاحاة إذا خولف. ثم أفضينا منه إلى أكرم محالفة وأجمل مساعدة. وكنا ربما امتحناه بأن ندعوه إلى الشيء الذي نعلم أنه يكرهه فيظهر لنا أنه لا يحب غيره ويرى ذلك في إشراق وجهه فكنا نغنى به عن حسن الغناء ونتدارس أخباره وآدابه فشغلنا ذلك عن تعرف اسمه ونسبه فلم يكن منا إلا تعرف الكنية فإنا سألناه عنها فقال: " أبو الفضل ". فقال لنا يوماً بعد اتصال الأنس: ألا أخبركم كيف عرفتكم قلنا: نعم إنا لنحب ذلك. قال: أحببت جارية في جواركم وكانت سيدتها ذات حبائب فكنت أجلس لها في الطريق ألتمس اجتيازها فأراها حتى أخلقني الجلوس على الطريق ورأيت غرفتكم هذه فسألت عن خبرها فخبرت عن ائتلافكم ومساعدة بعضكم بعضاً فكان الدخول فيما أنتم فيه آثر عندي من الجارية. فسألناه عنها فخبرنا فقلنا له: فإنا نختدعها حتى نظفرك بها. فقال: يا إخواني إني والله على ما ترون مني من شدة الشغف والكلف بها ما قدرت فيها حراماً قط ولا تقديري إلا مطاولتها ومصابرتها إلى أن يمن الله بثروة فأشتريها. فأقام معنا شهرين ونحن على غاية الاغتباط بقربه والسرور بصحبته إلى أن اختلس منا فنالنا بفراقه ثكل ممض ولوعة مؤلمة ولم نعرف له منزلاً نلتمسه فيه. فكدر علينا من العيش ما كان طاب لنا به وقبح عندنا ما كان حسن بقربه وجعلنا لا نرى سروراً ولا غماً إذا ذكرنا لاتصال السرور بصحبته وحضوره والغم بمفارقته فكنا فيه كما قال القائل: يذكرنيهم كل خير رأيته وشر فما أنفك منهم على ذكر فغاب عنا زهاء عشرين يوماً ثم بينا نحن مجتازون يوماً من الرصافة إذا به قد طلع في مركب نبيل وزي جليل فحيث بصر بنا انحط عن دابته وانحط غلمانه ثم قال: يا إخواني والله ما هنأني عيش بعدكم ولست أماطلكم بخبري حتى آتي المنزل ولكن ميلوا بنا إلى المسجد. فملنا معه فقال: أعرفكم أولاً بنفسي أنا العباس بن الأحنف وكان من خبري بعدكم أني خرجت إلى منزلي من عندكم فإذا المسودة محيطة بي فمضي بي إلى دار أمير المؤمنين فصرت إلى يحيى بن خالد فقال لي: ويحك يا عباس إنما اخترتك من ظرفاء الشعراء لقرب مأخذك وحسن تأتيك وإن الذي ندبتك له من شأنك وقد عرفت خطرات الخلفاء وإني أخبرك أن " ماردة " هي الغالبة على أمير المؤمنين وأنه جرى بينهما عتب فهي بدالة المعشوق تأبى أن تعتذر وهو بعز الخلافة وشرف الملك يأبى ذلك وقد رمت الأمر من قبلها فأعياني وهو أحرى أن تستعزه الصبابة فقل شعراً يسهل عليه هذه السبيل. فقضى كلامه ثم دعاه أمير المؤمنين فصار إليه وأعطيت قرطاساً ودواة فاعتراني الزمع وأذهب عني ما أريد الاستحثاث فتعذرت علي كل عروض ونفرت عني كل قافية ثم انفتح لي شيء والرسل تعنتني فجاءتني أربعة أبيات رضيتها وقعت صحيحة المعنى سهلة الألفاظ ملائمة لما طلب مني فقلت لأحد الرسل: ابلغ الوزير أني قلت أربعة أبيات فإن كان فيها مقنع وجهت بها. فرجع إلي الرسول بأن هاتها ففي أقل منها مقنع. وفي ذهاب الرسول وردوعه قلت بيتين نم غير ذلك الروي فكتبت الأبيات الأربعة في صدر الرقعة وعقبت بالبيتين فقلت: العاشقان كلاهما متغضب وكلاهما متوجد متعتب صدت مغاضبة وصد مغاضباً وكلاهما مما يعالج متعب إن التجنب إن تطاول منكما دب السلو فعز منه المطلب ثم كتبت تحت ذلك: لا بد للعاشق من وقفة تكون بين الهجر والصرم حتى إذا الهجر تمادى به راجع من يهوى على رغم ثم وجهت بالكتاب إلى يحيى من خالد فدفعه إلى الرشيد فقال: والله ما رأيت شعراً أشبه بما نحن فيه من هذا والله لكأني قصدت به. فقال له يحيى: فأنت والله يا أمير المؤمنين المقصود به هذا يقوله العباس بن الأحنف في هذه القصة. فلما قرأ البيتين وأفضى إلى قوله: راجع من يهوى على رغم استغرب ضحكاً حتى سمعت ضحكه ثم قال: إي والله أراجع على رغم يا غلام هات نعلي. فنهض وأذهله السرور عن أن يأمر لي بشيء فدعاني يحيى وقال: إن شعرك قد وقع بغاية الموافقة وأذهل أمير المؤمنين السرور عن أن يأمر لك بشيء. قلت: لكن هذا الخبر ما قوع مني بغاية الموافقة. ثم جاء غلام فساره فنهض وثبت مكاني ثم نهضه بنهوضه فقال لي: يا عباس أمسيت أملأ الناس أتدري ما سارني به هذا الرسول قلت: لا. وقال: ذكر لي أن " ماردة " تلقت أمير المؤمنين لما علمت بمجيئه ثم قالت له: يا أمير المؤمنين كيف كان هذا فأعطاها الشعر وقال: هذا الذي أتى بي إليك. قالت: فمن يقوله: عباس بن الأحنف. قالت: فبم كوفئ قال: ما فعلت شيئاً بعد. قالت: إذاً والله لا أجلس حتى يكافأ. قال: فأمير المؤمنين قائم لقيامها وأنا قائم لقيام أمير المؤمنين وهما يتناظران في صلتك فهذا كله لك. قلت: ما لي من هذا إلا الصلة. ثم قال: هذا أحسن من شعرك. قال: فأمر لي أمير المؤمنين بمال كثير وأمرت لي ماردة بمال دونه. وأمر لي الوزير بمال دون ما أمرت به وحملت على ما ترون من الظهر. ثم قال الوزير: من تمام اليد عندي ألا تخرج من الدار حتى نؤثل لك بهذا المال ضياعاً. فاشتريت لي ضياع بعشرين ألف درهم ودفع إلي بقية المال. فهذا الخبر الذي عاقني عنكم فهلموا حتى أقاسمكم الضياع وأفرق فيكم المال. قلنا له: هنأك الله ما لك فكل من يرجع إلى نعمة من أبيه وأهله. فأقسم وأقسمنا قال: فأنتم فيه أسوتي. فقلنا: أما هذا فنعم قال: فامضوا بنا إلى الجارية حتى نشتريها. فمشينا إلى صاحبتها وكانت جارية جميلة حلوة لا تحسن شيئاً أكثر ما فيها ظرف اللسان وتأدية الرسائل وكانت تساوي على وجهها خمسين ومائة دينار. فلما رأى مولاها ميل المشتري استام بها خمسمائة فأجبناه بالعجب فحط مائة ثم حط مائة. فقال العباس يا فتيان إني والله احتشم أن أقول بعد ما قلتم ولكنها حاجة في نفسي بها يتم سروري فإن ساعدتم فعلت. قلنا له: قل. قال: هذه الجارية أنا أعاينها منذ دهر وأريد إيثار نفسي بها فأكره أن تنظر إلي بعين من قد ماكس في ثمنها دعوني أعطه بها خمسمائة دينار كما سأل. قلنا له: وإنه قد حط مائتين قال: وإن فعل. قال: فصادفت من مولاها رجلاً حراً فأخذ ثلاثمائة وجهزها بالمائتين. فما زال إلينا محسناً حتى فرق الموت بيننا. حدث المجرد قال إسحاق بن إبراهيم: قال لي ابن وهب الشاعر: والله لأحدثنك حديثاً ما سمعه مني أحد قط وهو بأمانة أن يسمعه أحد منك ما دمت حياً. قلت: " قال: يا أبا محمد إنه حديث ما طن في أذنك أعجب منه. قلت: كم هذا التعقيد بالأمانة آخذه على ما أحببت. قال: بينا أنا بسوق الكيل بمكة بعد أيام الموسم إذا أنا بامرأة من نساء مكة معها صبي يبكي وهي تسكته فيأبى أن يسكت فسفرت وأخرت من فيها كسرة درهم فدفعتها إلى الصبي فسكت فإذا وجه رقيق كأنه كوكب دري وإذا شكل رطب ولسان فصيح فلما رأتني أحد النظر إليها قالت: اتبعني. فقالت: إن شريطتي الحلال. قالت: ارجع في حرامك ومن يريدك على حرام فخجلت وغلبتني نفسي على رأيي فتبعتها فدخلت زقاق العطارين فصعدت درجة وقالت: اصعد. فصعدت فقال: أنا مشغولة وزوجي رجل من بني مخزوم وأنا امرأة من زهرة ولكن عندي حر ضيق عليه وجه أحسن من العافية في مثل خلق ابن سريج وترنم معبد وتيه ابن عائشة. أجمع لك هذا كله في بدن واحد بأصفر سليم! قلت: وما أصفر سليم قالت: بدينار واحد يومك وليلتك فإذا قمت جعلت الدينار وظيفة وتزويجاً صحيحاً. قلت: فذلك لك إن اجتمع لي ما ذكرت. قال: فصفقت بيدها إلى جاريتها فاستجابت لها. قالت: قولي لفلانة: البسي ثيابك وعجلي وبحياتي لا تمسي غمراً ولا طيباً فحسبنا بدلالك وعطرك. قال: فإذا جارية أقبلت ما أحسب الشمس وقعت عليها كأنها دمية فسلمت وقعدت كالخجلة. فقالت لها الأولى: إن هذا الذي ذكرتك له وهو في هذه الهيئة التي ترين. قالت: حياه الله وقرب داره. قال: لا والله يا بنية لقد أنسيتها. ثم نظرت إلي فغمزتني وقالت: أتدري ما شريطتها قلت: لا. قالت: أقول لك بحضرتها ما إخالها تكرهه هي والله أفتك من عمرو بن معد يكرب وأشجع من ربيعة من مكدم ولست بواصل إليها حتى تسكر وتغلب على عقلها فإذا بلغت تلك الحال ففيها مطمع. فقلت: ما أهون هذا وأسهله. قالت الجارية: وتركت شيئاً أيضاً. قالت: نعم والله اعلم أنك لن تصل إليها حتى تتجرد لها فتراك مجرداً مقبلاً ومدبراً. قلت: وهذا أيضاً أفعله. قالت: هلم دينارك. فأخرجت ديناراً فنبذته إليها فصفقت صفقة أخرى فأجابتها امرأة قالت: قولي لأبي الحسن وأبي الحسين: هلما الساعة. فقلت في نفسي: أبو الحسن وأبو الحسين هو علي بن أبي طالب. قال: فإذا شيخان خاضبان نبيلان قد أقبلا فصعدا فقصت المرأة عليهما القصة فخطب أحدهما وأجاب الآخر. وأقررت بالتزويج وأقرت المرأة فدعوا بالبركة ثم نهضا فاستحييت أن أحمل المرأة شيئاً من المؤونة فأخرجت ديناراً آخر فدفعته إليها. وقلت: اجعلي هذا لطيبك. قالت: يا أخي ليست ممن يمس طيباً لرجل إنما أتطيب لنفسي إذا خلوت. قلت: فاجعلي هذا لغدائنا اليوم. قالت: أما هذا فنعم. فنهضت الجارية وأمرت بإصلاح ما يحتاج إليه ثم عادت وتغدينا وجاءت بدواة وقضيب وقعدت تجاهي ودعت بنبيذ فأعدته واندفعت تغني بصوت لم أسمع مثله قط فإني ألفت بيوت القنان نحواً من ثلاثين سنة فما سمعت مثل ترنمها قط فكدت أجن سروراً وطرباً فجعلت أريغ أن تدنو مني فتأبى إلى أن غنت بشعر لم أعرفه وهو: راحوا يصيدون الظباء وإنني لأرى تصيدها علي حراما أعزز علي بأن أروع شبيهها أو أن تذوق على يدي حماما فقلت: جعلت فداك من تغنى بهذا قالت: اشترك فيه جماعة هو لمعبد وتغنى به ابن سريج وابن عائشة. فلما نعي إلينا النهار وجاءت المغرب تغنت بصوت لم أفهمه للشقاء الذي كتب علي فقالت: كأني بالمجرد قد علته نعال القوم أو خشب السواري قلت: جعلت فداك ما أفهم هذا البيت ولا أحسبه مما يتغنى به. قال: أنا أول من تغنى به. قلت: فإنما هو بيت عائر لا صاحب له. قالت: معه آخر ليس هذا وقته وهو آخر ما أتغنى به. قال: فجعلت لا أنازعها في شيء إجلالاً لها. فلما أمسينا وصلينا المغرب وجاءت العشاء الآخرة وضعت القضيب فقمت وصليت العشاء وما أدري كم صليت عجلة وشوقاً فلما سلمت قلت: تأذنين جعلت فداك أشق ثيابي عجلة للخروج عنها فتجردت وقمت بين يديها مكفراً لها. قالت: امض إلى زاوية البيت وأقبل وأدبر حتى أراك مقبلاً مدبراً. قال: وإذا حصير في الغرفة عليه طريق إلى زاوية البيت فأخطر عليه وإذا تحته خرق إلى السوق فإذا أنا في السوق قائماً متجرداً منعظاً وإذا الشيخان الشاهدان قد أعدا لي نعالها وكمنا لي في ناحية فلما هبطت عليهما بادراً إلي فقطعا نعالها على قفاي واستعانا بأهل السوق فضربت والله يا أبا محمد حتى نسيت اسمي فينا أنا أضرب بنعال مخصوفة وأيد شديدة فإذا صوت من فوق البيت يغني به وهو: فقلت في نفسي: هذا والله وقت هذا البيت فنجوت إلى رحلي وما في عظم صحيح فلما انقضى حجنا وانصرفنا جعلت طريقي على ذلك الموضع فسألت عنها فقيل لي: إنها امرأة من آل أبي لهب. فقلت: لعنها الله ولعن الذي هي منه. حديث صاحبة الزب قال إسحاق: حدثني أبو السمراء قال: حججت فبدأت بالمدينة فإني لمنصرف من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا امرأة بفناء المسجد تبيع من طرائف المدينة وإذا هي في ناحية وحدها قد قام عنها من كان يجلس إليها وإذا هي ترجع بصوت خفي شجي فالتفت فرأيتها فقالت: هل من حاجة قلت: تزيدين في السماع. قالت: وأنت قائم لو قعدت! فقعدت كالخجل فقالت: كيف علمك بالغناء قلت: علم لا أحمده. قالت: فعلام أنفخ بلا نار وما منعك من معرفته فوالله إنه لسحوري وفطوري. قلت: وكيف وضعته بهذا الموضع العالي قالت: يا عير وله موضع يوضع به وهو من علوه في السماء الشاهقة قلت: وكل هؤلاء النسوة التي أرى على مثل رأيك وفي مثل حالك قالت: فيهن وفيهن ولي من بينهن قصة. قلت: وما هي قالت: كنت أيام شبابي وأنا في مثل هذه الخلقة التي من القبح والدمامة والأدمة وكنت أشتهي النيك شهوة شديدة وكان زوجي شاباً وضياً وكان لا ينتشر علي حتى أتحفه وأطيبه وأسكره فأصر ذلك بي وكان علقته امرأة قصار تجاورني فزاد ذلك في غمي فشكوت إلى جارة لي ما أنا فيه وغلبة امرأة القصار على زوجي فقالت: أدلك على ما ينهضه عليك ويرد قلبه إليك قلت: وا بأبي أنت إذاً تكوني أعظم الخلق منة علي. قالت: اختلفي إلي " مجمع " مولى آل الزبير فإنه حسن الغناء فاعلقي من أغانيه أصواتاً عشرة ثم غني بها زوجك فإنه ينيكك بجوارحه كلها. قالت: فألظظت بمجمع فلم أفارقه حتى رضيني حذاقة ومعرفة فكنت إذا أقبل زوجي من مهنته اضطجعت فرفعت عقيرتي فإذا غنيت صوتاًبت على زب وإن غنيت صوتين بت على زبين وإن ثلاثة فثلاثة. فكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا قال: فضحكت والله حتى أمسكت على بطني وقلت: يا هذه ما أظن الله خلق مثلك. قالت: اخفض من صوتك. قلت: ما كان أعظم منة صاحبة الشوري عليك. قالت: حسبي بها منة وحسبك بي شاكرة. قلت: ففي قلبك من تلك اللوعة شيء قالت لذع في الفؤاد فأما تلك الغلمة التي كانت تنسيني الفريضة وتقطعني عن النافلة فقد ذهب تسعة أعشارها. قال فوقفت عليها وقلت: ألك حاجة أن أرم بعض حالك قالت: أنا في قائت من العيش. فلما نهضت لأقوم قالت: على رسلك لا تنصرف خائباً. ثم ترنمت بصوت تخفيه من جاراتها: ولي كبد مقروحة من يبيعني بها كبداً ليست بذات قروح أبى الناس أن يرضوا بها يشترونها ومن يشتري ذاعرة بصحيح ثم قالت: انطلق لطيتك صحبتك السلامة. خبر الهاشمي مع المضحك وحدث أبو عبد الله بن عبد البر المزني بمصر قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن الهيثم بن عدي قال: كان بالمدينة رجل من بني هاشم وكان له قينتان يقال لإحداهما جؤذر وللأخرى رشأ وكان يعجبه السماع وكان بالمدينة مضحك يغب مجالس المتطرفين ومواضع الملهين فأرسل إليه الهاشمي ذات يوم ليضحك منه فلما جاءه قال له المضحك: إنك أصلحك الله في لذتك ولا لذة لي. قال له: وما لذتك قال تحضرني نبيذاً فإنه لا يطيب لي عيش إلا به. فأمر الهاشمي بإحضار نبيذ وأمر أن يطرح فيه سكر العشر فلما شربه المضحك تحرك عليه بطنه وتناوم الهاشمي وغمز جواريه عليه فلما ضاق عليه الأمر واضطر إلى التبرز قال في نفسه: ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين وأهل اليمن يسموت الكنف المراحيض. قال لهما: يا حبيبتي أين المرحاض قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول قالت: يقول: غنياني: رحضت فؤادي فعنيتني أهيم من الحب في كل واد فاندفعتا فغنتاه فقال في نفسه: لم تفهما والله عني أنظهما شاميتين وأهل الشام يسمونها المذاهب. قال: يا حبيبتي أين المذاهب فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول قالت: يسأل أن يغنى: ذهبت من الهجران في كل مذهب ولم يك حقاً كل هذا التجنب فغنتاه الصوت فقال في نفسه: لم يفهما عني ما أظنهما إلا مدنيتين وأهل المدينة يسمونها بيت الخلاء. قال: يا حبيبتي أين بيت الخلاء قالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول قالت: يسأل أن يغنى: خلى علي جوى الأحزان إذ ظعنا من بطن مكة والتسهيد والحزنا قال: فغنتاه فقال في نفسه: إنا لله وإنا إليه راجعون ما أحسبهما الفاسقتين إلا بصريتين وأهل البصرة يسمونها الحشوش. قال: يا حبيبتي أين بيت الحش قالت إحداهما للأخرى: ويلك ما أوحش الحشان فالربع منها فمناها فالمنزل المعمور فرفعا عقيرتيهما تغنيانه فقال: ما أراهما إلا كوفيتين وأهل الكوفة يسمونها الكنف. فقال: يا حبيبتي أين يكون الكنيف قالت إحداهما للأخرى: يعيش سيدنا هل رأيت أكثر اقتراحاً من هذا الرجل أفهميني ما يقول قالت: يقول غنياني: تكنفني الهوى طفلاً فشيبني وما اكتهلا قال: فغلبه بطنه وعلم أنهما تولعان به والهاشمي يتقطع ضحكاً فقال: كذبتما يا زانيتان ولكني أعلمكما ما هو فرفع ثيابه فسلح عليهما فانتبه الهاشمي فقال: سبحان الله أتحدث على وطائي فقال: الذي خرج من جوفي أعز علي من وطائك إن هاتين القبيحتين حسبتا أنما أسأل عن الحش للضراط فأردت أن أعلمهما ما هو يوم دارة جلجل قال الفرزدق: وأصابنا بالبصرة ليلاً مطر جود فلما أصبحت ركبت بغلة لي وسرت إلى المربد فإذا أنا بآثار دواب قد خرجت إلى ناحية البرية فظننت أنهم قوم خرجوا للنزهة وهم خلقاء أن تكون معهم سفرة فاتبعت آثارهم حتى انتهيت إلى بغال عليها رحائل موقوفة على غدير فأسرعت إلى الغدير فإذا فيه نوسة مستنقعات في الماء فقلت: لم أر كاليوم قط ولا يوم دارة جلجل. وانصرفت مستحياً فنادينني: يا صاحب البغلة ارجع نسألك عن شيء. فرجعت إليهن فقعدن في الماء إلى حلوقهن ثم قلن: بالله إلا ما أخبرتنا ما كان من حديث دارة جلجل. قلت: حدثني جدي وأنا يومئذ غلام حافظ أن امرأ القيس كان عاشقاً لابنة عمه ويقال لها: عنيزة وأنه طلبها زماناً فلم يصل إليها حتى كان يوم الغدير وهو يوم دارة جلجل. وذلك أن الحي تحملوا فتقدم الرجال وتخلف النساء والخدم والثقل. فلما رأى امرؤ القيس تخلف بعد ما سار مع رجال قومه غلوة فكن في غيابه من الأرض حتى مر به النساء وفيهن عنيزة فلما وردن الغدير قلن: لو نزلنا فاغتسلنا في هذا الغدير فيذهب عنا بعض الكلال! فنزلن في الغدير ونحين العبيد ثم تجردن فوقعن فيه فأتاهن امرؤ القيس فأخذ ثيابهن فجمعها وقد عليها وقال: والله لا أعطي جارية منكن ثوبها ولو قعدت في الغدير يومها حتى تخرج متجردة فتأخذ ثوبها. فأبين ذلك عليه حتى تعالى النهار وخشين أن يقصرن عن المنزل الذي يردنه فخرجن جميعاً غير عنيزة: فناشدته الله أن يطرح ثوبها فأبى فخرجت فنظر إليها مقبلة ومدبرة وأقبلن عليه فقلن له: إنك عذبتنا وحبستنا وأجعتنا. قال: فإن نحرت لكن ناقتي أتأكلن منها قلن: نعم. فجرد سيفه فعرقبها ونحرها ثم كشطها وجمع الخدم حطباً كثيراً فأججن ناراً عظيمة فجعل يقطع أطايبها ويلقي على الجمر ويأكلن ويأكل معهن ويشرب من فضلة كانت معه ويسقيهن وينبذ إلى العبيد من الكباب. فلما أرادوا الرحيل قالت إحداهن: أنا أحمل طنفسته. وقالت الأخرى: أنا أحمل رحله وأنساعه فتقسمن متاعه وزاده. وبقيت عنيزة لم تحمل له شيئاً. فقال لها: يا ابنة الكرام لا بد أن تحمليني معك فإني لا أطيق المشي. فحملته على غارب بعيراه فكان يجنح إليها فيدخل رأسه في خدرها فيقبلها فإذا امتنعت مال حدجها فتقول: قعرت بعيري فانزل! ففي ذلك يقول: ويوم عقرت للعذارى مطيتي فيا عجبا من رحلها المتحمل فظل العذارى يرتمين بلحمها وشحم كهداب الدمقس المفتل ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة فقالت لك الويلات إنك مرجلي تقول وقد مال الغبيط بنا معاً عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل فقلت لها سيري وأرخي زمامه ولا تبعديني من جناك المعلل وكان الفرزدق أروى الناس لأخبار امرئ القيس وأشعاره. وذلك أن امرأ القيس رأى من أبيه جفوة فلحق بعمه شرحبيل بن الحارث وكان مسترضعاً في بني دارم فأقام فيهم وهم رهط خبر دعبل وصريع الغواني حدثنا أبو سويد بن أبي عتاهية عن دعبل بن علي الشاعر قال: بينا أنا ذات يوم بباب الكرخ وأنا سائر وقد احتوى الفكر على قلبي في أبيات شعر قد نطق بها اللسان على غير اعتقاد جنان فقلت: دموع عيني لها انبساط ونوم عيني به انقباض فإذا أنا بجارية رائعة الجمال فائق الكمال حوراء الطرف يقصر عن نعتها الوصف لها وجه زاهر ونور باهر فهي كما قال الشاعر: كأنما أفرغت في قشر لؤلؤة في كل جارحة منها لها قمر وهي تسمع قولي فاعترضت فقالت: هذا قليل لمن دهته بلحطها الأعين المراض فأجبتها فقلت: فهل لمولاي عطف قلب أو للذي في الحشا انقراض فأجابتني فقالت: قال دعبل: فلا أعلمني خاطبت جارية تقطع الأنفاس بعذوبة ألفاظها وتختلس الأرواح ببراعة منطقها وتذهل الألباب برخيم نغمتها مع ملاحة خد ورشاقة قد وكمال عقل وبراعة شكل واعتدال خلق. فحار البصر. وذهب اللب وجل الخطب وتلجلج اللسان وتعلقت الرجلان وما ظنك بالحلفاء إذ دنت من النار. ثم ثاب إلي عقلي وراجعني حلمي فذكرت قول بشار: لا يمنعنك من مخدرة قول تغلظه وإن جرحا عسر النساء إلى مياسرة والصعب يمكن بعدما جمحا هذا لمن حاول ما دون الطمع فيه اليأس منه فكيف بمن وعد قبل المسألة وبذل قبل الطلبة. فقلت مسمعاً لها: أترى الزمان يسرنا بتلاق ويضم مشتاقاً إلى مشتاق فقالت مجيبة لي في أسرع من نفس: ما للزمان يقال فيه وإنما أنت الزمان فسرنا بتلاق قال دعبل: فلحظتها فتبعتني وذلك في أيام إملاقي فقلت: ما لي إلا منزل مسلم صريع الغواني فسرت إلى بابه فاستوقفتها وناديته فخرج فقلت له: أجمل لك الخبر: معي وجه صبيح يعدل الدنيا بما فيها وقد حصل علي ضيقة وعسر. فقال: لقد شكوت ما كدت أبادرك بشكواه ايت بها. فلما دخلت قال: لا والله ما أملك غير هذا المنديل. فقلت: هو البغية فناولنيه. فقال: خذه لا بارك الله لك فيه. فأخذته فبعته بدينار عين وكسر فاشتريت لحماً وخبزاً ونبيذاً وصرت غليه فإذا هما يتساقطان حديثاً كأنه قطع الروض الممطور. قال: ما صنعت فأخبرته. قال: كيف يصلح طعام وشراب وجلوس مع وجه نظيف بلا نقل ولا ريحان ولا طيب اذهب فألطف لتمام ما جئت به. قال: فخرجت فاضطربت في ذلك حتى أتيت به فألفيت باب الدار مفتوحاً فدخلت فإذا لا أرى لهما ولا لشيء مما أتيت به أثراً فسقط في يدي وقلت: أرى صاحب الربع أخذهما. فبقيت متلهفاً حائراً أرجم الظنون وأجيل الفكر سائر يومي. فلما أمسيت قلت يا نفسي: أفلا أدور في البيت لعل الطلب يوقفني على أثر ففعلت فوقفت على باب سرداب له وإذا هما قد هبطا فيه وأنزلا معهما جميع ما يحتاجان إليه فأكلا وشربا وتنعما. فلما أحسستهما دليت رأسي ثم ناديت: مسلم ويلك! فلم يجبني حتى ناديت ثلاثاً. فكان من إجابته لي أن غرد بصوت يقول فيه: بت في درعها وبات رفيقي جنب القلب طاهر الأطراف ثم قال دعبل: ويلك! من يقول هذا قلت: قال: فضحكا ثم سكتا واستجلبت كلامهما فلم يجيباني وأخذا في لذتهما وبت بليلة يقصر عمر الدهر عن ساعة منها طولاً وغماً وهماً حتى إذا أصبحت ولم أكد خرج إلي مسلم فجعلت أؤنبه فقال لي: يا صفيق الوجه منزلي ومنديلي وطعامي وشرابي فما شأنك في الوسط قلت له: حق القيادة والفضول والله لا غير! فولى وجهه إليها وقال: بحياتي إلا أعطيته حق قيادته وفضوله. فقالت: أما حق قيادته فعرك أذنه وأما حق فضوله فصفع قفاه. فاستقبلني مسلم فعرك أذني وصفعني. فقلت: ما هذا فقال: جرى الحكم عليك بما جرى لك من العذل والاستحقاق. حدثنا عيسى بن أحمد الكاتب قال: قال لي الحسين بن الضحاك: دخلت على جعفر المتوكل وشفيع الخادم ينضد ورداً بين يديه ولم نعرف في ذلك الزمان خادماً كان أحسن منه ولا أجمل وعليه ثياب موردة فأمره أن يسقيني ويغمز كفي. ثم قال لي: يا حسين قل في شفيع. وكان قد حيا المتوكل بوردة فجعل المتوكل يشرب ويشم الوردة فقلت: فيا وردة جاءت إلينا بحمرة من الورد تمشي في قراطق كالورد ويغمز كفي عند كل تحية بكفيه يستدعي الشجي إلى الورد سقى الله دهراً لم أبت فيه ليلة من الدهر إلا من حبيب على وعد فأمر المتوكل شفيعاً أن يسقيني وخاصة وبعث معه إلي بتحايا في عبير وشمامات. وذكروا أن محمد بن عبد الملك الزيات وزير المتوكل كان يعشق خادماً للمتوكل يقال له شفيع وكان الحسن بن وهب كاتبه كلفاً بذلك الخادم فلقيه الحسن بن وهب يوماً فسأله عن خبره فأخبره أنه يريد أن يحتجم فلم تبق بالعراق غريبة إلا بعث بها إليه ولا طريفاً من الأشربة إلا أدخله عليه وكتب إليه بهذه الأبيات: ليت شعري يا أملح الناس عندي هل تعالجت بالحجامة بعدي دفع الله عنك لي كل سوء باكر رائح وإن خنت عهدي قد كتمت الهوى بمبلغ جهدي ففشا منه بعض ما كنت أبدي وخلعت العذار فليعلم النا س بأني إياك أصفي بودي من عذيري من مقلتيك ومن إش راق وجه من حول حمرة خد فصادف رسوله رسول محمد بن الزيات الوزير فرأى رقعة الحسن فاحتال حتى أخذها وأوصلها إلى الوزير محمد بن عبد الملك. فلما قرأها كتب إلى كاتبه الحسن بن وهب: ليت شعري عن ليت شعرك هذا أبهزل تقوله أم بجد وتشبهت بي وكنت أرى أن ي أنا الهائم المتيم وحدي أترك القصد في الأمور ولولا غمرات الصبا لأبصرت قصدي سيدي سيدي ومولاي ومن أل بسني ذلك وأضرع خدي لا أحب الذي يلوم وإن كا ن حريصاً على صلاحي ورشدي وأحب الأخ المشارك في الحب وإن لم يكن به مثل وجدي كصديقي أبى علي وحاشى لصديقي من مثل شقوة جدي إن مولاي عبد غيري ولولا شؤم جدي لكان مولاي عبدي فلما التقى ابن الزيات الوزير وكاتبه الحسن بن وهب في بيت الديوان تداعبا في ذلك وسأله ابن الزيات أن يتجافى له عنه فقال له الحسن: طاعتك واجبة في المحبوب والمكروه لكن الرئيس أدام الله عزه كان أولى بالتفضيل. فقال له ابن الزيات: هيهات هذه علة نفسانية تؤدي إلى التلف فتنح عن نصيبك مني. فقال الحسن: إن كان هذا هكذا سمعنا وأطعنا. وأنشد: شهيدي على ما في فؤادي من هوى دموع تباري المستهل من القطر وأسلمني من كان بالأمس مسعدي وصار الهوى عوناً علي مع الدهر قال: دخلت الساعة على قبيحة وقد كتبت بالمسك في خدها اسمي فوالله ما رأيت سواداً في بياض أحسن منه في ذلك الخد فقل فيه شعراً. فقلت: يا أمير المؤمنين أمظلومة معي قال: نعم ومظلومة خلف ستارة فدعت بدواة وبدرت بالقول فقالت: وكاتبة بالمسك في الخد جعفرا بنفسي خط المسك من حيث أثرا لئن أودعت سطراً من المسك خدها لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا فيا من لمملوك تملك مالكاً مطيعاً له فيما أسر وأظهرا ويا من مناها في السرائر جعفر سقى الله من صوب الغمامة جعفرا قال: فأفحمت فلم أنطق وتغلبت علي خواطري فما قدرت على حرف أقوله وضحك أمير المؤمنين. الأصمعي قال: دخلت على هارون الرشيد وبين يديه جارية حسناء عليها لمة جعدة وذؤابة تضرب الحقو منها وهلال بين عينيها مكتوب عليه بالذهب: " هذا ما عمل في طراز الله ". فقال: يا أصمعي صفها. فأنشأت أقول: كنانية الأطراف سعيدة الحشا هلالية العينين طائية الفم فقال: أحسنت والله يا أصمعي. فعل عرفت اسمها فقلت: لا يا أمير المؤمنين. فقال: اسمها دنيا. قال: فأطرق ساعة ثم قلت: إن دنيا هي التي تسحر العين سافره ظلموها شطر اسمها فهي دنيا وآخره قال الأصمعي: فأمر لي بعشرة آلاف درهم. إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: دخلت على الرشيد وعنده جارية قد أهديت إليه ماجنة شاعرة أديبة وبين يديه طبق فيه ورد فقال: يا إسحاق أما ترى ما أحسن هذا الورد ونضرة لونه! قلت: بك والله حسن ذلك يا أمير المؤمنين. فقال: قل فيه بيتاً يشبهه. فأطرق ساعة ثم قلت: كأنه خد موموق يقبله فم الحبيب وقد أبدى به خجلا فاعترضتني الجارية فقالت: كأنه لون خدي حين تدفعني كف الرشيد لأمر يوجب الغسلا فقال الرشيد: قم يا إسحاق فقد حركتني هذه الفاسقة. وحدثنا أيضاً قول: كان هارون الرشيد جالساً بين جاريتين من جواريه فقال لهما: من يبيت عندي هذه الليلة منكما فقالت إحداهما: أنا. فقالت الأخرى: لا بل أنا. فقال للأولى: ما حجتك فيما ادعيت فقالت: قول الله يا أمير المؤمنين: " أولئك المقربون ثم قال للثانية: وما حجتك أنت قالت: قول الله: " فقال: لتقل كل واحدة منكما شعراً في الغزل فمن كانت أرق شعراً باتت عندي. فقالت الأولى: أنا التي أمشي كما يمشي الوجي يكاد أن يصرعني تغنجي من جنة الفردوس كان مخرجي وقالت الأخرى: أنا التي لم ير مثلي بشر كلامي اللؤلؤ حين ينثر أسحر من شئت ولست أسحر لو سمع الناس كلامي كفروا فقال لهما: قد أحسنتما وأجدتما وما لواحدة منكما فضيلة على صاحبتها ولكني أبيت بينكما. أخبرنا أبو الطيب الكاتب أن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان ليلة بين جاريتين. مدنية وكوفية فجعلت الكوفية تغمز يديه والمدنية تغمز رجليه فجعلت المدنية ترتفع إلى فخذيه حتى ضربت بيدها إلى متاعه وحركته حتى أنعظ فقالت لها الكوفية: ويحك نحن شركاؤك في البضاعة وأراك قد انفردت دوننا برأس المال وجدك فأديليني منه. قال: فقالت المدنية: حدثنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال " من أحيا مواتاً فهو له ولعقبه ". قال: فاستغلتها الكوفية ودفعتها ثم أخذته بيديها جميعاً وقالت: حدثنا الأعمش عن خيثمة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: " الصيد لمن صاده لا لمن أثاره ". أخبرنا الأنطاكي أن المتوكل على الله طلب من محمود الوراق جارية مغنية وأعطاه بها عشرة آلاف دينار فأبى فلما مات محمود اشتراها في ميراثه بخمس آلاف وقال لها: كنا قد أعطينا مولاك بك عشرة آلاف وقد اشتريناك من ميراثه بخمسة آلاف. قالت: يا أمير المؤمنين إذا كانت الخلفاء تتربص بلذاتها المواريث فسنشتري بأرخص مما اشتريت. أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: لاعب هارون الرشيد جارية من جواريه على إمرة مطاعة فقمرته فقال لها: تمني. قالت: تقوم فتقطع فرداً. فقام فقضى فيها وطره ثم لاعبها فقمرته فقال لها: تمني. قالت: تقوم فنقطع فرداً. فقام فقضى فيها طره ثم لاعبها فقمرته فقال لها: تمنى. قالت: تقوم فتقطع فرداً. فقام فقضى فيها وطره ثم لاعبها فقمرته فقال: تمني. فقالت: المعادوة. فغشيها ثم لاعبته فقمرته فقالت: قم لميعادك. فقال: لا أقدر على ذلك. قالت: فاكتب لي به عليك كتاباً آخذك به مت شئت. قال: ذلك لك. فدعت بدواة وقرطاس وكتبت: " هذا كتاب فلانة على مولاها أمير المؤمنين: إن لي عليك فرضاً آخذه متى شئت وأنى شئت من ليل أو نهار ". وكان رأسها وصيفة لها فقالت: تزيدي يا سيدتي في الكتاب فإنك لا تأمنين الحدثان ومن قام له بهذا الذكر حق فهو ولي ما فيه. فضحك الرشيد حتى استلقى على فراشه واستطرفها وأمر أن تنزل مقصورة وأن يجرى لها رزق سني وشغف بها. ويقال: إنها " مراجل " أم المأمون. تنفس محمد بن هارون الأمين يوماً في مجلسه أيام الحصار فالتفت إلى جليس له وهو محمد بن سلام صاحب المظالم فقال له: ويحك يا محمد أتدري قلت: نعم يا أمير المؤمنين ذكرت قول الشاعر: ذكر الهوى فتنفس المشتاق وبدا عليه الذل والإطراق يا من يصبرني لأصبر بعده الصبر ليس يطيقه العشاق فقال: لا والله ما نكأتها. ثم التفت إلى جليس له آخر فقال له: ويحك أتدري قال: نعم يا أمير المؤمنين ذكرت قول ابن الأحنف: تذكرت بالريحان منك شمائلاً وبالراح عذباً من مقبلك العذب فقال: لا والله ما نكأتها ثم التفت إلى كوثر الخادم فقال له: ويحك! أتدري فقال: نعم يا أمير إن كان دهر بني ساسان فرقهم فإنما الدهر أطوار دهارير وربما أصبحوا يوماً بمنزلة تهاب صولهم الأسد المهاصير قال: صدقت. وكتبت جارية إلى علي بن الجهم رقعة فأجاب فيها: ما رقعة جاءتك مكتوبة كأنها خد على خد تبدو سواداً في بياض كما ذو فتيت المسك في الورد ساهمة الأسطر مصروفة عن جهة الهزل إلى الجد يا كاتباً أسلمني عتبه إليه حسبي منك ما عندي وكتبت أيضاً: قلب يمل على لسان ناطق ويد تخط رسالة من عاشق مزج المداد بعبرة شهدت له من كل جارحة بحب صادق فيمينه تحت الوساد وخده ويساره فوق الفؤاد الخافق أهدت جارية من جواري المهدي تفاحة إلى المهدي وطيبتها. وكتبت فيها: فأجاب المهدي: تفاحة من عند تفاحة جاءت فماذا صنعت بالفؤاد والله ما أدري أأبصرتها يقظان أم أبصرتها في الرقاد وكتب بعض الكتاب إلى مدام جارية المازني وبعث إليها بقنين من مدام: قل لمن يملك الملو ك وإن كان قد ملك قد شربناك مرة وبعثنا إليك بك وقال علي بن الجهم: دخلت على أبي عثمان المازني وعنده جارية له كأنها شقة قمر وبيدها تفاحة معضوضة فقالت: عرفت ما أراد الشاعر بقوله: خبريني من الرسول إليك واجعليه من لا ينم عليك قلت: ما أعرفه. قالت: هو هذه ورمت إلي بالتفاحة فوالله ما وجدت لها جواباً من نظير كلامها. وقال شيخ من أهل البصرة: لقيت الحسن بن وهب فأردت أن أمتحن سلامة طبعه ومعي تفاحة فأريته إياها وسألته أن يصفها فقال لي: نحن على الطريق ولكن مل إلى المسجد. فملنا إليه فأخذها وقلبها بيده شيئاً وقال: قد بت في ليلتي أقلبها أشكو إليها طاول الكمد لو أن تفاحة بكت لبكت من رحمة هذه التي بيدي وعد المأمون جارية أن يبيت عندها وأخلفها الوعد فكتبت إليه: أرقت عيني ونامت عين من هنت عليه إن نفسي فاعذرنها أصبحت في راحتيه رحم الله رحيماً دل عيني عليه فلما قرأ رقعتها ضحك ولم يبت ليلته إلا عندها. عتب المأمون على جارية من جواريه وكان كلفاً بها فأعرض عنها وأعرضت عنه ثم أسلمه العزاء وأقلقه الشوق حتى أرسل يطلب مراجعتها وأبطأ عليه الرسول فلما رجع إليه أنشأ يقول: بعثتك مرتاداً ففزت بنظرة وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا وناجيت من أهوى وكنت مقرباً فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى ونزهت طرفاً في محاسن وجهها ومتعت باستظراف نغمتها أذنا أرى أثراً منها بعينيك لم يكن لقد سرقت عيناك من وجهها حسنا تكلم ليس يوجعك الكلام ولا يؤذي محاسنك السلام أنا المأمون والملك الهمام ولكني بحبك مستهام يحق عليك ألا تقتلني فيبقى الناس ليس لهم إمام كتبت امرأة عمر بن عبد العزيز إلى عمر لما اشتغل عنها بالعبادة: ألا أيها الملك الذي قد سبى عقلي وهام به فؤادي أراك وسعت كل الناس عدلاً وجرت علي من بين العباد وأعطيت الرعية كل فضل وما أعطيتني غير السهاد فصرف وجهه إليها. وقعد الرشيد يوماً عند زبيدة وعندها جواريها فنظر إلى جارية واقفة عند رأسها فأشار إليها أن تقبله فاعتلت بشفتيها فدعا بدواة وقرطاس فوقع فيه: قبلته من بعيد فاعتل من شفتيه ثم ناولها القرطاس فوقعت فيه: فما برحت مكاني حتى وثبت عليه فلما قرأ ما كتبت استوهبها من زبيدة فوهبتها له. فمضى بها وأقام معها أسبوعاً لا يدري وعاشق صب بمعشوقه كأنما قلباهما قلب روحاهما روح ونفساهما نفس كذا فليكن الحب حدث أبو جعفر قال: بينا محمد بن زبيدة الأمين يطوف في قصر له إذ مر بجارية له سكرى وعليها كساء خز تسحب أذياله فراودها عن نفسها فقالت: يا أمير المؤمنين أنا على حال ما ترى ولكن إذا كان من غد إن شاء الله. فلما كان من الغد مضى إليها فقال لها: الوعد. فقالت له: يا أمير المؤمنين: أما علمت أن كلام الليل يمحوه النهار فضحك وخرج إلى مجلسه فقال: من بالباب من شعراء الكوفة فقيل له: مصعب والرقاشي وأبو نواس. فأمر بهم فأدخلوا عليه فلما جلسوا بين يديه قال: ليقل كل واحد منكم شعراً يكون آخره: كلام الليل يمحوه النهار فأنشأ الرقاشي يقول: متى تصحو وقلبك مستطار وقد منع القرار فلا قرار وقد تركتك صباً مستهاماً فتاة لا تزور ولا تزار إذا استنجزت منها الوعد قالت كلام الليل يمحوه النهار وقال مصعب: بحب مليحة صادت فؤادي بألحاظ يخالطها احورار ولما أن مددت يدي إليها لألمسها بدا منها نفار فقلت لها عديني منك وعداً فقالت في غد منك المزار فلما جئت مقتضياً أجابت كلام الليل يمحوه النهار وقال أبو نواس: وخود أقبلت في القصر سكرى ولكن زين السكر الوقار وهز المشي أردافاً ثقالاً وغصنا فيه رمان صغار وقد سقط الردا عن منكبيها من التجميش وانحل الإزار فقلت: الوعد سيدتي. فقالت: كلام الليل يمحوه النهار فقال له: أخزاك الله أكنت معنا ومطلعاً علينا فقال: يا أمير المؤمنين عرفت ما في نفسك فأعربت عما في ضميرك. فأمر له بأربعة آلاف درهم ولصاحبيه بمثلها. وقال بعض العراقيين: غضبت من قبلة بالكره جدت بها فها أنا جئت فاقتصيه أضعافا لم يأمر الله إلا بالقصاص فلا تستجوري ما رآه الله إنصافا تبدي صدوداً وتخفي تحته صلة فالنفس راضية والطرف غضبان يا من وضعت له خدي فذلله وليس فوقي سوى الرحمن سلطان خبر الحسن بن هانئ مع الأسود أبو بكر الوراق قال: قال لي الحسن بن هانئ: حججت مع الفضل بن الربيع حتى إذا كنا ببلاد فزارة وذلك إبان الربيع نزلنا منزلاً بإزاء ماء لبني تميم ذا روض أريض ونبت غريض تخضع لبهجته الزرابي المبثوثة والنمارق المصفوفة فقرت بنضرتها العيون وارتاحت إلى حسنها القلوب وانفرجت ببهائها الصدور فلم نلبث أن أقبلت السماء فأسف غمامها وتدانى من الأرض ركامها حتى إذا كان كما قال أوس بن حجر حيث يقول: دان مسف فويق الأرض هيدبه يكاد يدفعه من قام بالراح همت برذاذ ثم بطش ثم برش ثم بوابل ثم أقلعت وقد غدرت الغدران مترعة تتدفق والقيعان تتألف رياض مونقة ونوافح من ريحها عبقة فسرحت طرفي راتعاً منها في أحسن منظر وانتشقت من رياها أطيب من المسك الأذفر. قال: فلما انتهينا إلى أوائلها. إذا نحن بخباء على بابه جارية متبرقعة ترنو بطرف مريض الجفون وسنان النظر قد أشعرت حماليقه فتوراً وملئت سحراً فقلت لزميلي: استنطقها. قال: وكيف السبيل إلى ذلك قلت: استسقها ماء. فاستسقاها فقالت: نعم ونعمى عين وإن نزلتم ففي الرحب والسعة. ثم مضت تتهادى كأنها خوط بان أو قضيب خيزران فراعني ما رأيت منها ثم أتت بالماء فشربت منه وصببت باقيه على يدي ثم قلت: وصاحبي أيضاً عطشان. فأخذت الإناء فذهبت فقلت لصاحبي: من الذي يقول: إذا بارك الله في ملبس فلا بارك الله في البرقع يريك عيون الدمى غرة ويكشف عن منظر أشنع قال: وسمعت كلامي فأتت وقد نزعت البرقع ولبست خماراً أسود وهي تقول: ألا حي ركبي معشر قد أراهما أطالا ولما يعرفا مبتغاهما هما استسقيا ماء على غير ظمأة ليستقيا باللحظ ممن سقاهما فشبهت كلامها بعقد در وهي سلكه فانتثر بنغمة عذبة رقيقة رخيمة لو خوطب بها الصم الصلاب لانبجست مع وجه يظلم لنوره ضياء العقول وتتلف في روعته مهج النفوس وتخف في محاسنه رزانة الحليم ويحار في بهائه طرف البصير. فدقت وجلت واسبطرت وأكملت فلو جن إنسان من الحسن جنت فلم أتمالك أن سجدت وخررت ساجداً فأطلت من غير تسبيح فقالت: ارفع رأسك غير مأجور ولا تذم من بعدها برقعاً فلربما انكشف عما يصرف الكرى ويحل القوى ويطيل الجوى من غير بلوغ إرادة ولا درك طلبة ولا قضاء وطر ليس إلا للحين المجلوب والقدر المكتوب والأمل الكذوب فبقيت والله معقول اللسان عن الجواب حيران لا أهتدي لصواب فالتفت إلي صاحبي فقال لما رأى هلعي كالمسلي لي عن بعض ما أذهلني: ما هذه الخفة لوجه برقت لك منه بارقة لا تدري ما تحته أما سمعت قول ذي الرمة: على وجه مي مسحة من ملاحة وتحت الثياب العار لو كان باديا فقالت: أما ما ذهبت إليه لا أبالك فلا والله لأنا بقول الشاعر: منعمة حوراء يجري وشاحها على كشح مرتج الروادف أهضم لها بشر صاف وعين مريضة وأحسن إيماء بأحسن معصم خزاعية الأطراف سعدية الحشا فزارية العينين طائية الفم أشبه من قولك الآخر. ثم رفعت ثيابها حتى بلغت نحرها وجاوزت منكبيها فإذا قضيب فضة قد شيب بماء الذهب يهتز على مثل كثيب النقا وصدر كالوذيلة عليه كالرمانتين وخصر لو رمت عقدة لانعقد مطوي الاندماج على كفل رجراج وسرة مستديرة يقصر فهمي عن بلوغ نعتها من تحتها أرنب جاثم أو جبهة أسد خادر وفخذان لفاوان وساقا خدلجان يخرسان الخلاخيل وقدمان كأنهما لسانا. ثم قالت: أعاراً ترى لا أبالك قلت: لا والله ولكن سبب القدر المتاح ومقربي من الموت الذباح يطبق علي الضريح ويتركني جسداً بغير روح. فخرجت عجوز من الخباء فقالت له: امض لشأنك فإن قتيلها مطلول لا يودي وأسيرها مكبول لا يفدى. فقلت لها: دعيه فإن له مثل قول غيلان: فإلا يكن إلا تعلل ساعة قليلاً فإني نافع لي قليلها فولت العجوز وهي تقول: وما لك منها غير أنك نائك بعينيك عينيها وأيرك جانب فنحن كذلك حتى ضرب الطبل للرحيل فانصرفت بكمد قاتل وكرب خابل وأنا أقول: يا حسرتي مما يجن فؤادي أزف الرحيل بغربتي وبعادي فلما قضينا حجنا وانصرفنا راجعين ممرنا بذلك المنزل وقد تضاعف حسنه وتمت بهجته فقلت لصاحبي: امض بنا إلى صاحبتنا. فلما أشرفنا على الخيام فصعدنا ربوة ونزلنا وهدة إذا هي تتهادى بين خمس ما تصلح أن تكون خادماً لأدناهن وهن يجنين من نور ذلك الزهر فلما رأيننا وقفن فقلنا: السلام عليكن. فقالت من بينهن: وعليك السلام ألست صاحبي قلت: بلى. قلن: وتعرفينه قالت: نعم وقصت عليهن القصة ما خرمت حرفاً. قلن لها: ويحك فما زودته شيئاً يتعلل به قالت: بلى زودته لحداً ضامراً وموتاً حاضراً. فانبرت لها أنضرهن خداً وأرشقهن قداً وأسحرهن طرفاً وأبرعهن شكلاً فقالت: والله ما أحسنت بدءاً ولا أجملت عوداً ولقد أسأت في الرد ولم تكافئيه في الود فما عليك لو اسعفته بطلبته وأنصفته في مودته وإن المكان لخال وإن معك من لا ينم عليك. فقالت: أما والله لا أفعل من ذلك شيئاً أو تشركيني في حلوه ومره. قالت لها: تلك إذاً قسمة ضيزى أتعشقين أنت وأناك أنا قالت أخرى منهن: قد أطلتن الخطاب في غير أرب فسلن الرجل عن نيته وقصده وبغيته فلعله لغير ما أنتن فيه قصد. فقلن: حياك الله وأنهم بك علينا من تكون وممن أنت وما تعاني وإلام قصدت فقلت: أما الاسم فالحسن بن هانئ رجل من اليمن ثم من سعد العشيرة وأحد شعراء السلطان الأعظم ومن يدني مجلسه ويتقى لسانه ويرهب جانبه. وأما قصدي فتبريد غلة وإطفاء لوعة قد أحرقت الكبد وأذابتها. قالت: لقد أضفت إلى حسن المنظر كرم المخبر وأرجو أن يبلغك الله أمنيتك وتنال بغيتك. ثم أقبلت عليهن فقالت: ما بواحدة منكن عن مثله مرغب فتعالين نشترك فيه ونقترع عليه فمن واقعتها القرعة منا تكون هي البادية. فاقترعن فوقعت القرعة على المليحة التي قامت بأمري فعلقن إزاراً على باب مغار يجاورهن وأدخلت فيه وأبطأن عني وجعلت أتشوف لدخول إحداهن علي إذ دخل علي أسود كأنه سارية وبيده شيء كالهراوة قد أنعظ بمثل رأس الخفيدد قلت: ما تريد قال: أنيكك. فهمني والله نفسي ثم صحت بصاحبي وكان أيداً فبالحري والله ما تخلصت منه حتى خرجنا من الغار وإذا هن يتضاحكن ويتهادين إلى الخيمات فقلت لصاحبي: من أين أقبل الأسود قال: كان يرعى غنماً إلى جانب الغار فدعونه فوسوسن إليه شيئاً فدخل عليك. فقلت أبا علي: أتراه كان يفعل في شيئاً فقال: أتراك خلصت منه. فانصرفت وأنا أخزى الناس. قال إسماعيل: فقلت: ناكك والله الأسود. فقال: ما لك أبعدك الله فوالله لقد كتمت هذا الحديث مخافة هذا التأويل حتى ضاق به ذرعي ورأيتك موضعاً له فبحقي عليك إن أذعته. قال إسماعيل: فما فهت به حتى مات. خبر ذي الرمة قال أبو صالح الفزاري: ذكرنا ذا الرمة فقال عصمة بن عبد الملك شيخ منا قد بلغ عشرين ومائة سنة: لإياي فاسألوا عنه كان من أظرف الناس آدم خفيف العارضين حسن المضحك حلو المنطق وإذا أنشد بربر وجش صوته وإذا راجعك لم تسأم من حديثه وكلامه وكان له إخوة يقولون الشعر منهم مسعود وهشام وأوفى كانوا يقولون القصيدة فيزيد عليها الأبيات فيغلب عليها فتذهب له فجمعني وإياه مربع فأتاني يوماً فقال لي يا عصمة: إن مية منقرية وبنو منقر أخبث حي وأقوفه لأثر وأعطفه بشر فهل عندك ناقة نزدار عليها مية قلت: والله إن عندي للجؤذر قال: علي بها. فركبنا جميعاً وخرجنا حتى أشرفنا على بيوت الحي فإذا هم خلوف وإذا بيت مية ناحية فعرفن ذا الرمة فتقوض النساء إلى مي وجئنا حتى أنخنا ثم دنونا فسلمنا وقعدنا نتحدث فإذا هي جارية أملود واردة الشعر بيضاء تغمرها صفرة وعليها ثوب أصفر وطاق أخضر فقلن: أنشدنا يا ذا الرمة. فقال: أنشدهن يا عصمة. فأنشدتهن: نظرت إلى أظعان مي كأنها ذرى النخل أو أثل تميل ذوائبه فأعربت العينان والصدر كاتم بمغرورق نمت عليه سواكبه فقالت ظريفة منهن: لكن الآن فلتجل قال: فنظرت إليها مية متكرهة ثم مضيت في القصيدة حتى انتهيت إلى قوله: إذا سرحت من حب مي سوارح على القلب لبته جميعاً عوازبه فقالت الظريفة: قتلته قتلك الله. قالت مية: ما أصحه وهنيئاً له. فتنفس ذو الرمة تنفساً ظننت معه أن فؤاده قد انصدع ومضيت فيها حتى انتهيت إلى قوله: وقد حلفت بالله مية ما الذي أقول لها إلا الذي أنا كاذبه إذاً فرماني الله من حيث لا أرى ولا زال في أرضي عدو أحاربه فالتفتت إليه فقالت: خف عواقب الله. ومضيت في القصيدة حتى انتهيت إلى قوله: إذا راجعتك القول مية أو بدا لك الوجه منها أو نضا الثوب سالبه فيا لك من خد أسيل ومنطق رخيم ومن خلق تعلل جادبه فقالت الظريفة: ها هي ذه قد راجعتك وقد بدا لك الوجه منها فمن لك بأن ينضو الدرع سالبه فالتفتت مية إليها فقالت: قاتلك اله ما أنكر ما تجيبين به. فتحدثن ساعة ثم قالت الظريفة للنساء: إن لهذين لشأناً فقمن بنا وقمت معهن فجلست في بيت أراهما منه فما رأيته برح من مقعده ولا فقدته فسمعتها قالت له: كذبت والله. ولا أدري ما قال لها فلبثت قليلاً ثم جاءني معه قارورة فيها دهن ومعه قلائد للجؤذر فقال: هذا دهن طيب أتحفنا به وهذه قلائد للجؤذر ولا والله ما أقلدهن بعيراً أبداً! وشد بهن ذوائب سيفه وانصرفنا. فكنا نختلف إليها حتى انقضى الربيع ودعا الناس المصيف فأتاني فقال: هيا عصمة قد رحلت مي ولم يبق إلا الآثار ورسوم الديار. وأنشدني: ألا يا اسملي يا دار مي على البلى ولا زال منهلاً بجرعائك القطر خرج المأمون في يوم عيد وقد ركب الجند أمامه ومعه يحيى بن أكثم يضاحكه ويحادثه إذ نظر إلى غلام من الجند في غاية الفراهة عليه ثوب حرير أخضر وثوب موشى مزرر بالذهب فالتفت إلى يحيى بن أكثم فقال له: يا يحيى ما تقول في هذه البضاعة فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا لقبيح من إمام مثلك مع فقيه مثلي. قال: فمن الذي يقول: قاض يرى الحد في الزناء ولا يرى على من يلوط من باس فقال: دعبل الذي يقول: ولا أرى الجور ينقضي وعلى ال أمة والٍ لآل عباس قال: ينفى إلى السند وإنما داعبناك. ثم أنشأ المأمون يقول: أيها الراكب ثوبا ه حرير وحديد أنت جندي ولكن فيك للحسن جنود الفضل بن الربيع قال: قعد المخلوح للناس يوماً وعليه طيلسان أزرق وتحت لبد أبيض فوقع في ثمانمائة قصة فوالله لقد أصاب فما أخطأ وأسرع فما أبطأ ثم قال لي: يا فضل أتراني لا أحسن التدبير والسياسة ولكني وجدت شم الآس وشرب الكاس والاستلقاء من غير نعاس أشهى إلي من ذلك. قال ابن قتيبة: خرج أبو عيسى جبريل بن أبي عيسى إلى متنزه بالقفص ومعه الحسن بن هانئ في آخر شعبان فلما كان اليوم الذي أوفى به الشهر ثلاثين يوماً قيل له: إن هذا يوم شك وبعض أهل العلم يصومه فقال: لا عليك ليس الشك حجة على اليقين. حدثنا أبو جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ". ثم قال أبو عيسى: لو شئت لم نبرح من القفص نشربها حمراء كالحص نسرق هذا اليوم من شهرنا والله قد يعفو عن اللص وذكروا أن أبا عيسى خرج إلى القفص متنزهاً ومعه الحسن بن هانئ فحمله وخلع عليه فأقام فيها أسبوعاً ثم قال: بحياتي صف مجلسنا والأيام كلها. فقال في ذلك: يا طيبنا بقصور االقفص مشرقة بها الدساكر والأنهار تطرد جاءتك من دن خمار بطينتها صفراء مثل شعاع الشمس ترتعد وقام كالبدر مشدوداً قراطقه ظبي يكاد من التهييف ينعقد فسلها من فم الإبريق فانبعثت مثل اللسان جرى واستمسك الجسد فلم نزل في صباح السبت نأخذها والليل يأخذنا حتى بدا الأحد واستشرقت غرة الاثنين واضحة والجدي معترض والطالع الأسد يوفي الثلاثاء أعملنا المطي بها صهباء ما قرعتها بالمزاج يد والأربعاء صفا فيه النعيم لنا والكأس يضحك في حافاتها الزبد ثم الخميس وصلناه بليلته قصفاً وتم لنا بالجمعة العدد يا حسننا وبحار القفص تغمرنا في لجة الليل والأوتار تجتلد في مجلس حوله الأشجار محدقة وفي جوانبه الأطيار تغترد لا نستخف بساقينا لعزته ولا يرد عليه حكمه أحد عند الهام أبي عيسى الذي كملت أخلاقه فهي كالأوراق تنتقد عشرون ألف فتى ما منهم أحد إلا كألف فتى مقدامة بطل أضحت مزاودهم مملوءة نشباً ففرغوها وأوكوها إلى الأمل فقلت له: أحسنت لله أنت. فقال: أتحب رقيقة فقلت: ما أحوجني إليها. فقال: إنما هيج البلا حين عض السفرجلا وعلا الورد وجنتي ه فأبدى التخجلا يفضح البدر في الكما ل إذا البدر أكملا ولقد قام لحظ عي ني على القلب بالقلا قلت له: أبو من أعزك الله قال: ابو عيشونة الخياط شهدت حروب ابن زبيدة كلها وجاريت الفتيان في غاية كل ميدان واعترف لي كل فاتك وأذعن لي كل شاطر ونزلت تلك الدار عشرين سنة. وأومأ إلى سجن بغداد ثم تنفس الصعداء. وقال: أنا الذي أقول: لي فؤاد مستهام وجفون ما تنام ودموع آخر الده ر بعيني سجام وحبيب كلما خا طبته قال سلام ثم بكى تخالجاً فلما افاق قلت: ما يبكيك قال: وكيف لا أبكي ولي حبيب بالبصرة علقته وهو ابن سبع عشرة سنة ثم غبت عنه ثلاثاً وثلاثين سنة فلما عيل صبري خرجت إلى البصرة فطفت في شوارعها حتى رأيته فما رأيت وجهاً أحسن منظراً ولا أزهى منه. ثم أنشأ يقول: مردد في كمده معذب في سهده خلا به السقم فما أسرعه في جسده يرحمه لما به من ضره ذو حسده ثم ودعني ومضيت. وحدثني أبو الفضل قال: إني لفي الطواف أمام الحجر إذ سمعت حنيناً يخرج من بين الأستار وإذا قائل يقول: عفا الله عمن يحفظ الود جهده ولا كان عفو الله للناقض العهد وضعت على الأستار خدي ليلة ليجمعني مع من وضعت له خدي قال: فرفعت الأستار فإذا جارية منفردة كأنها شمس تجلت عنها غمامة. فقلت: يا هذه لو سألت الله الجنة مع هذا التضرع والبكاء ما حرمك إياها. قال: فسترت وجهها وقالت: سبحان من خلق فسوى ولم يهتك العلانية والنجوى. أما والله إني لفقيرة إلى رحمة ربي وقد سألته أكبر الأمرين عندي رجاء فضله واتكالاً على عفوه. ثم ولت عني فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم. حدث مسلم بن عبد الله بن مسلم بن جندب قال: خرجت أنا وزبان السواق إلى العقيق فلقينا نسوة نازلات من العقيق لهن جمال وشارة وفيهن جارية حسانة العينين فلما رآها زبان قال لي: يا بن الكرام دم أبيك والله في ثيابها فلا تطلب أثراً بعد عين. وأنشد قول أبي مسلم بن جندب: ألا يا عباد الله هذا أخوكم قتيلاً فهل منكم له اليوم ثائر خذوا بدمي إن مت كل مليحة مريضة جفن العين والطرف ساحر قال: فقالت لي الجارية: أنت ابن جندب قلت: نعم. قالت: فاغتنم نفسك واحتسب أباك فإن قتيلنا لا يودى وأسيرنا لا يفدى. الزبير بن بكار عن عبد الله بن مسلم بن جندب قال: قلت: تعالوا أعينوني على الليل إنه على كل عين لا تنام طويل قال: فطرقني عيسى بن طلحة قال: إني سمعت قولك فجئت أعينك. فقلت: يرحمك الله أغفلت الإجابة حتى أتى الله بالفرج. أبو المهلهل الخزاعي قال: ارتحلت إلى الدهناء فسألت عن مي صاحبة ذي الرمة فدفعت إلى خيمة فيها عجوز هيفاء فسلمت عليها وقلت: أين منزل مي فقالت: ها أنا مي. فقلت: عجباً من ذي الرمة وكثرة قوله فيك. قالت: لا تعجب فإني سأقوم بعذره. ثم قالت: فلانة! فخرجت من الخيمة جارية ناهدي عليها برقع فقالت لها: أسفري. فلما تحيرت لما رأيت من حسنها وجمالها فقالت: علقني ذو الرمة وأن في سن هذه وكل جديد إلى بلى. قلت: عذرته والله. واستنشدتها من شعره فأنشدتني. ما يكتب على العصائب وغيرها أبو الحسن قال: دخلت على هارون الرشيد وعلى رأسه جوار كالتماثيل فرأيت عصابة منظمة بالدر والياقوت مكتوباً عليها في صفائح الذهب: ظلمتني في الحب يا ظالم والله فيما بيننا الحاكم قال: ورأيت في عصابة أخرى: ما لي رميت فلم تصبك سهامي ورميتني فأصبتني يا رامي قال: ورأيت في عصابة أخرى: " وضع الخد للهوى عز ". قال: ورأيت في صدر أخرى هلالاً أفلت من حور الجنان وخلقت فتنة من يراني قال إسحاق بن إبراهيم: دخلت على الأمين محمد بن زبيدة وعلى رأسه وصائف في قراطق مفروجة بيد وصيفة منهن مروحة مكتوب عليها: بي طالب العيش في الصي ف وبي طاب السرور ممسكي ينفي أذى الح ر إذا اشتد الحرور الندى والجود في وج ه أمين الله نور ملك أسلمه الشب ه وأخلاه النظير وفي عصابتها: ألا بالله قولوا يا رجال أشمس في العصابة أم هلال وفي أخرى: أتهوون الحياة بلا جنون فكفوا عن ملاحظة العيون وكتب " ورد " جارية الماهاني على عصابتها وكانت تجيد الغناء مع فصاحتها وبراعتها: تمت وتم الحسن في وجهها فكل شيء ما سواها محال للناس في الشهر هلال ولي في وجهها كل صباح هلال يا رامياً ليس يدري ما الذي فعلا عليك عقلي فإن السهم قد قتلا أجريته في مجاري الروح من بدني فالنفس في تعب والقلب قد شغلا وقال علي بن الجهم: خرجت علينا " عالج " جارية خالصة كأنها خوط بان وهي تميس في روقة وعلى طرتها مكتوب بالغالية وكانت من مجان أهل بغداد مع علمها بالغناء: يا هلالاً من القصور تجلى صام قلبي لمقلتيه وصلى لست أدري أطال ليلي أم لا كيف يدري بذاك من يتقلى لو تفرغت لاستطالة ليلي ولرعى النجوم كنت مخلا قال: وخرجت إلينا " منال " وعليها درع خام على جانبها الأيمن مكتوب: كتب الطرف في فؤادي كتاباً هو بالشوق والهوى مختوم وعلى الأيسر مكتوب: كان طرفي على فؤادي بلاء إن طرفي على فؤادي مشوم قال: وكان على عصابة " ظبي " جارية سعيد الفارسي مكتوب بالذهب: العين قارئة لما كتبت في وجنتي أنامل الشجن قال: وحدثني الحسن بن وهب قال: كتبت " شعب " على قلنسوة جاريتها " شكل ": حذراً عليك وإنني بك واثق أن لا ينال سواي منك نصيباً وكتب " شفيع " خادم المتوكل على عاتق قبائه الأيمن: بدر على غصن نضير شرق الترائب بالعبير وعلى عاتقه الأيسر: خطت محاسن وجهه في صفحة القمر المنير وكتبت " وصيف " جارية الطائي على عصابتها: الكفر والسحر في عيني إذا نظرت فاغرب بعينك يا مغرور عن عيني فإن لي سيف لحظ لست أغمده من صنعة الله لا من صنعة القين وكان على عصابة " مزاج " وهي من مواجن أهل بغداد وفتاكها: قالوا عليك دروع الصبر قلت لهم هيهات إن سبيل الصبر قد ضاقا ما يرجع الطرف عنها حين يبصرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقا وكتبت " عنان " جارية الناطفي على عصابتها من قولها: فما زال يشكو الحب حتى حسبته تنفس في أحشائه وتكلما فأبكي لديه رحمة لبكائه إذا ما بكى دمعاً بكيت له دما ليس حسن الخضاب زين كفي حسن كفي زين لكل خضاب قال: وخرجت علينا جارية حمدان وقد تقلدت سيفاً محلى وعلى رأسها قلنسوة مكتوب عليها: تأمل حسن جارية يحار بوجهها البصر مؤنثة مذكرة فهي أنثى وهي ذكر وعلى حمائل سيفها مكتوب الذهب: لم يكفه سيف بعينيه يقتل من يشاء بحديه حتى تردى مرهفاً صارماً فكيف أبقى بين سيفيه فلو تراه لابساً درعه يخطر فيها بين صفيه علمت أن السيف من طرفه أقتل من سيف بكفيه وكتب " واجد " على منطقة جاريتها " منصف " الكوفية: تكتي من غمزة العي ن إذا ما مست تنحل وفؤادي رق حتى كاد من صدري ينسل اشرب على منظر أنيق وامزج بريق الحبيب ريقي واحلل وشاح الكعاب رفقاً واحذر على خصرها الدقيق وقل لمن لام التصابي إليك خل عن الطريق وقف صريع الغواني بباب محمد بن منصور فاستسقى فأمر وصيفاً له فأخرج إليه خمراً في كأس مذهبة فلما نظر إليها في راحته قال: ذهب في ذهب را ح بها غصن لجين فأتت قرة عين من يدي قرة عين لا جرى بيني ولا بي نهما طائر بين وبقينا ما بقينا أبداً ملتقين في غبوق وصبوح لم نبع نقداً بدين محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن عبد الله قال: رأيت على مروحة مكتوباً: الحمد لله وحده وللخليفة بعده وللمحب إذا ما حبيبه بات عنده تضم إحداهما أحشاء صاحبه حتى كأنهما للقرب في عقد هذا يبوح بما لاقاه من حرق وذاك يظهر ما يخفي من الوجد وفي عصابة أخرى: فإن يحجبوها بالنهار فما لهم بأن يحجبوا بالليل عني خيالها قال أبو عبيدة: ورأيت على " عصابة " حسناء مكتوباً: كتبت في جبينها بعبير على قمر في سطور ثلاثة: لعن الله من غدر وتناولت كفها ثم قلت اسمعي الخبر كل شيء سوى الخيا نة في الحب يغتفر فإذا خانك الحبي ب فذره إلى سقر قال الأصمعي: رأيت على باب الرشيد وصائف على عصابة كل واحدة منهن مكتوب: نحن حور نواعم من أراض مقدسه أحسن الله رزقنا ليس فينا منحسه وقال أبو جعفر الكرماني يوماً للمأمون: أتأذن لي في دعابة قال: هاتها ويحك فما العيش إلا فيها قال: يا أمير المؤمنين إنك ظلمتني وظلمت غسان بن عباد. قال: وكيف ذلك ويلك قال: رفعت غسان فوق قدره ووضعتني دون قدري إلا أنك لغسان أشد ظلماً. قال: وكيف قالت: لأنك أقمته مقام هر وأقمتني مقام رخمة. فاستظرف ذلك منه ورفع درجته. أبو زيد قال: كان عطاء بن أبي رباح مع ابن الزبير وكان أملح الناس جواباً فلما قتل ابن الزبير أمنه عبد الملك بن مروان فقدم عليه فسأل الإذن فقال عبد الملك: لا أريده يضحكني قد أمنته فلينصرف. قال أصحابه: فنحن نتقدم إليه أن لا يفعل. فأذن له عبد الملك فدخل وسلم عليه وبايعه ثم ولى فلم يصبر عبد الملك أن صاح به: يا عطاء أما وجدت أمك اسماً إلا عطاءً قال: وقد والله استنكرت من ذلك ما استنكرته يا أمير المؤمنين لو كانت سمتني بأمي المباركة صلوات الله عليها مريم. فضحك عبد الملك وقال: اخرج. لعب رجل بين يدي هارون بالشطرنج فلما رآه قد استجاد لعبه وفاوضه الكلام قال له: ولني نهر بوق. قال: بل أوليك نصفه اكتبوا عهده على بوق. قال: فولني على أرمينية. قال: أخشى أن يبطئ علي خبرك. قال: فغيرها. قال: لا أريد أن أبعدك من نفسي. واختصم إلى زيادة بنو راسب وبنو طفارة في غلام ادعوه وأقاموا جميعاً البينة عند زياد. فأشكل على زياد أمره فقال سعد الرابية من بني عمرو بن يربوع: أصلح الله الأمير قد تبين لي في هذا الغلام القضاء ولقد شهدت البينة لبني راسب والطفاوة فولني الحكم بنيهم. قال: وما عندك في ذلك قال: أرى أن يلقى في النهر فإن رسب فهو لبني راسب وإن طفا فهو للطفاوة. فأخذ زيادة نعليه وقام وقد غلبه الضحك ثم أرسل إليه فقال: ألم أنهك عن المزاح في مجلسي قال: أصلح الله الأمير حضرني أمر خفت أن أنساه. فضحك زياد وقال: لا تعودن. أبو زيد قال: لم يكن بالبصرة أفصح لساناً ولا أظهر جمالاً من الحسن بن أبي الحسن البصري وزرعة بن أبي حمزة الهلالي. قال: وأخبرني الوليد بن عبيد البحتري الشاعر قال: كنا عند المتوكل على الله يوماً وبين يديه عبادة المخنت فأمر به فألقي في بعض البرك في أيام الشتاء فابتل وكاد يموت برداً قال: ثم أخرج من البركة وكسي وجعل في ناحية من المجلس. فقيل له: يا عبادة كيف أنت وما حالك قال: يا أمير المؤمنين جئت من الآخرة. فقال له: كيف تركت أخي الواثق قال: لم أجز بجهنم. فضحك المتوكل وأمر له بصلة. نوادر أشعب قال أشعب: في وفي أبي الزناد عجب كنت أنا وهو في كفالة عائشة بنت عثمان فما زال يعلو وأسفل حتى بلغنا غايتنا هذه. قيل لأشعب: لو أنك حفظت الحديث حفظك هذه النوادر لكان أولى بك. قال: قد فعلت. قالوا: فما حفظت من الحديث قال: حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كان فيه خصلتان كتب عن الله خالصاً مخلصاً ". قالوا: إن هذا حديث حسن فما هاتان الخصلتان قال: نسي نافع واحدة ونسيت أنا الأخرى. وقال أشعب: رأيت رؤيا نصفها حق ونصفها باطل. قالوا له: كيف ذلك قال: رأيتني أحمل بدرة فمن شدة ثقلها علي كنت أسلح في ثيابي ثم انتبهت فإذا أنا بالسلح ولا بدرة. ساوم أشعب رجلاً بقوس فقال له: أقل ثمنها دينار. قال أشعب: والله أنك رميت بها طائراً في جو السماء فوقع مشوياً بين رغيفين ما اشتريتها منك بدينار أبداً. وقيل لأشعب: خففت صلاتك. قال: إن لم يخالطها رياء. وضرب الحجاج أعرابياً سبعمائة سوط وهو يقول عند كل سوط. شكراً لك يا رب. فلقيه أشعب فقال: أتدري لم ضربك الحجاج سبعمائة سوط قال: ما أدري. قال: لكثرة شكرك الله. يقول الله: " قال له الرجل: رضيت قال: فأنا أؤخرك ما شئت ولا أسلفك. أبو حاتم عن الأصمعي عن أبي القعقاع. قال: رأيت أشعب في السوق يبيع قطيفة ويقول للمشتري: أريد أن أبرأ إليك من عيب. قال: وما ذاك قال: يحترق تحتها من دفن فيها. قال أشعب: من بال ولم يضرط كتب من الكاظمين الغيظ. وقيل لأشعب: هل خلق أطمع منك قال: بلى أمي فإني كنت إذا جئتها بفائدة قد أعطيتها قالت: ما جئت به فأتهجى لها الشيء حرفاً حرفاً. ولقد أهدي لنا مرة غلام قالت: ما جئت به قلت: غين. قالت: ثم ماذا قلت: لام ألف ميم. فأغمي عليها وجعلت تضرط. ولو أخبرتها به جملة لطار قلبها فرحاً. وقيل له: ما بلغ من طمعك قال: لم أنظر إلى اثنين يتساران إلا حسبت أنهما يأمران لي بشيء. ومر أشعب برجل نجار يعمل طبقاً فقال له: زد فيه طوقاً واحداً تتفضل به علي. قال: وما يدخل عليك من ذلك قال: لعل يوماً يهدى إلي فيه شيء. قال الأصمعي: أخبرني هارون بن زكريا عن أشعب قال: أدركت الناس يقولون: قتل عثمان. قال الأصمعي: وعاش أشعب إلى زمان المهدي ورأيته. دخل رجل على الأعمش يسأله عن مسألة فرد عليه فلم يسمع قال له: زدني في السماع يرحمك الله. قال ما ذلك لك ولا كرامة. قال: فبيني وبينك رجل من المسلمين. قال: فخرجا إلى الطريق فمر بهما شريك القاضي فقال: إني حدثت هذا بحديث فلم يسمع فسألني أن أزيده في السماع لأنه ثقيل السمع وزعم أن ذلك واجب له فأبيت. قال له شريك: عليك أن تزيده لأنك تقدر أن تزيد في صوتك ولا يقدر أن يزيد في سمعه. أتت ليلة الشك من رمضان فكثر الناس على الأعمش يسألونه عن الصوم فضجر ثم بعث إلى بيته في رمانة فشقها ووضعها بين يديه فكان إذا نظر إلى رجل قد أقبل يريد أن يسأله تناول حبة فأكلها فكفى الرجل السؤال ونفسه الرد. قال رقبة بن مصقلة: سفه علينا الأعمش يوماً فقالت امرأته من وراء الستر: احملوا عنه فوالله ما يمنعه من الحج منذ ثلاثة سنة إلا مخافة أن يلطم كريه أو يشتم رفيقه. طلبت بنت الأعمش من الأعمش حاجة فحجبها بالرد فقالت: والله ما أعجب منك ولكني أعجب من قوم زوجوك. ودخل رقبة بن مصقلة على الأعمش فقال: إنا والله لنأتينك فما تنفعنا ونتخلف عنك فما تضرنا وإن الوقوف إليك لذل وإن تركك لحسرة تسأل الحكمة فكأنما تسعط الخردل وما أشبهك إلا بالصماخيقون فإنه كريه الشربة نافع للمعدة. فرفع رأسه الأعمش وقال: من هذا المتكلم فقيل له: رقبة بن مصقلة. فنكس رأسه. وقال رجل من تلاميذ الأعمش: صنعت للأعمش طعاماً ثم دعوته فمضى معي وأنا أقوده حتى سقطت رجله في حفرة يعملها الصبيان للكرة فقال: ما هذا قلت: حفرة يعملها الصبيان للكرة. قال: لا ولكنك حفرتها لتقع رجلي فيها. والله لا أكلت عندك يومي هذا طعاماً. قال: فحملت الطعام إليه ثم صنعت له بعد ذلك طعاماً ودعوته إليه فقال: ادخل بنا الحمام قبل ذلك فأدخلته الحمام فلما جئت أن أصب الماء الحار على رأسه قال: ما دعاك إلى هذا أردت أن تسلق قفاي والله لا أكلت عندك يومي هذا طعاماً! قال: فحملت الطعام إليه. وكثر الشعر على الأعمش فقلنا له: لو أخذت من شعرك قال: لا جد حجاماً يسكت حتى يفرغ. قلنا له: فإنا نأتيك بحجام ونتقدم إليه أن يسكت حتى يفرغ. قال: فافعلوا. قال: فأتيناه بحجام وأعذرنا إليه أن لا يتكلم حتى ينقضي أمره فبدأ الحجام بحلقه فلما أمعن في حلقه سأله عن مسألة فنفض ثيابه وقام بنصف رأسه محلوقاً حتى دخل بيته ثم جئناه بغيره فقال: لا والله لا أخرج إليه حتى تصوموه أو تحلفوه. فحلفناه ألا يسأله عن شيء. فخرج إليه. ولمحمد بن مطروح الأعرج من التبرم المليح والضجر الموقع ما هو أحسن من هذا وأوقع. وسأله رجل يوماً: ما تقول يرحمك الله في رجل مات يوم الجمعة أيعذب عذاب القبر قال: يعذب يوم السبت. وقال له آخر: أتجد في بعض الحديث أن جهنم تخرب قال: ما أشقاك إن اتكلت على خرابها. واستسقى بالناس يوماً فأسرع بالصلاة قبل أن يتوافى الناس فلما انصرف تلقاه بعض الوزراء فقال له: أسرعت أبا عبد الله. قال: ليس علينا أن ننتظر حتى تشربوا وتأكلوا. وكانت لقومس الكاتب منه منزلة وجوار وكان يتحفه بما أمكنه من الهدايا وكانت صلاته معه في الجامع والأعرج صاحب الصلاة فإذا حضرت الصلاة ولم يحضر قومس قال بعض القومة: أنت يا شيطان كلم هؤلاء الكلاب لا يقيموا الصلاة حتى يأتي ذا الخنزير. فكان بره في حبس الصلاة عليه براً العقوق خير منه. وكان يجلس إليه خصي لزرياب وقد حج وتنسك ولزم الجامع فيتحدث في مجلسه بأخبار زرياب ويقول: كان أبو الحسن رحمه الله يقول كذا وكذا. فقال له الأعرج: من أبو الحسن هذا قال: زرياب. قال: بلغني عنه أنه كان أخرق الناس لاست خصي. وسأله مرة وقال له: ما تقول في الكبش الأعرج. أيجوز في الأضحية قال: نعم والخصي أيضاً مثلك. وسمع أبو يعقوب الخريمي منصور بن عمار صاحب المجالس يقول في دعائه: " اللهم اغفر لأعظمنا ذنباً وأقساناً قلباً وأقربنا بالخطيئة عهداً وأشدنا على الدنيا حرصاً ". فقال له: امرأتي طالق إن كنت دعوت إلا لإبليس. الأصمعي قال: حدثنا بعض شيوخنا عن ابن طاوس قال: أقبلت إلى عبد الله بن الحسن فأدخلني بيتاً قد نجد بالرهاوي والميساني وكل فرشة شريفة. قال: فبسطت نطعاً وجلست عليه وابناه محمد وإبراهيم صبيان يلعبان فلما نظرا إلي قال أحدهما لصاحبه: ميم. فقال الآخر: جيم. فقلت أنا: نون واو نون. فاستغرا ضحكا وخرجا إلى أبيهما. أبو زيد قال: سكر حائك من الزط فحلف بالطلاق ليغنينه أبو علي الأشرس فمضى معه جماعة إلى أبي علي فأخبروه وقالوا: سكر وامتلأ وحلف بالطلاق لتغنينه. فأقبل على الحائك فقال: يا مرد سبز يا مرد خش يا مرد تر إياك أن تعود. وكان شيخ من البخلاء يأتي إلى ابن المقفع فألح عليه يسأله الغداء عنده وفي كل ذلك يقول له: أترى أنك تراني أتكلف لك شيئاً لا والله لا أقدم لك إلا ما عندي. فأجابه يوماً فلما أتاه إذا ليس عند ولا في منزله إلا كسرة يابسة وملح جريش. ووقف سائل بالباب فقال له: بورك فيك. فألح عليه في السؤال فقال له: لئن خرجت إليك لأدقن ساقيك! فقال ابن المقفع للسائل: أنك والله لو علمت من صدق وعيده ما علمت من صدق وعده لم تراده كلمة ولا وقفت طرفة عين. مر برقبة بن مصقلة رجل زاهد غليظ الرقبة فقال: هذا رجل زاهد والعلامات فيه بخلاف ذلك. فقال له رجل: أكلمه بذلك أصلحك الله لئلا تكون غيبة قال: كلمه حتى تكون نميمة. قال شريك بن عبد الله القاضي: سبع من العجائب: عمياء منتقبة وسوداء مختصبة وخصي له امرأة ومخنث يؤم قوماً وأموي شيعي ومخعي مرجي وعربي أشقر. ثم قال شريك: من المحال عربي أشقر. قالوا: كانت في أبي عمرو ضرار بن عمرو ثلاثة من المحال: كان كوفياً معتزلاً وكان من بني عبد الله بن غطفان ويرى رأي الشعوبية ومحال أن يكون عربي شعوبياً. ومات وهو ابن سبعين سنة. وسأل رجل عمر بن قيس عن الحصاة من حصى المسجد يجدها الإنسان في ثوبه أو خفه أو جبهته فقال له: ارم بها. قال الرجل: زعموا أنها تصيح حتى ترد إلى المسجد. قال: دعها تصيح حتى ينشق حلقها. قال الرجل: أولها حلق قال: فمن أين تصيح. وسئل عامر الشعبي عن المسجد الخرب أيجامع فيه قال: نعم ويخرأ فيه. الأصمعي قال: ولي رجل مقل قضاء الأهواز فأبطأت عليه أرزاقه وحضر الأضحى ليس عنده ما يضحي به ولا ما ينفق فشكا ذلك إلى امرأته وأخبرها بما هو فيه من الضيق وأنه لا يقدر على الأضحية. فقالت له: لا تغتم فإن عندي ديكاً جليلاً قد سمنته فإذا كان يوم الأضحى ذبحناه. فبلغ جيرانه الخبر فأهدوا له ثلاثين كبشاً وهو في المصلى لا يعلم فلما صار إلى منزله ورأى ما فيه من الأضاحي قال لا مرأته: من أين هذا قالت: أهدى لنا فلان وفلان وفلان. حتى سمت جماعتهم. فقال لها: يا هذه تحفظي بديكنا هذا فهلو أكرم على الله من إسحاق بن إبراهيم إنه فدي بكبش واحد قد فدي ديكنا هذا بثلاثين كبشاً. خرج أبو دلامة مع المهدي في مصاد لهم فعن لهم ظبي فرماه المهدي فأصابه ورمى علي بن سليمان فأخطأ وأصاب الكلب فضحك المهدي وقال لأبي دلامة: قل. فقال: قد رمى المهدي ظبياً شك بالسهم فؤاده فهنيئاً لهما ك ل امرئ يأكل زاده وكتب أبو دلامة إلى عيسى بن موسى وهو والي الكوفة رقعة فيها هذه الأبيات: إذا جئت الأمير فقل سلام عليك ورحمة الله الرحيم وأما بعد ذاك فلي غريم من الأنصار قبح من غريم لزوم ما علمت بباب داري لزوم الكلب أصحاب الرقيم له مائة علي ونصف أخرى ونصف النصف في صك قديم دراهم ما انتفعت بها ولكن حبوت بها شيوخ بني تميم ودخل أبو دلامة على المهدي وعنده محمد بن الجهم وزيره وكان المهدي يستثقله فقال له: أبا دلامة والله لا تبرح مكانك حتى تهجو أحد الثلاثة. فهم أبو دلامة بهجاء ابن الجهم خاف شره فرأى أن هجاء نفسه أقل ضرراً عليه فقال: ألا أبلغ لديك أبا دلامه فليس من الكرام ولا كرامه إذا لبس العمامة كان قرداً وخنزيراً إذا وضع العمامه وإن لزم العمامة كان فيها كقرد ما تفارقه الدمامه لتصلين على النبي محمد ولتملأن دراهماً حجري فقال له: أما الصلاة على النبي فصلى الله عليه وسلم وأما الدراهم فإلى أن أرجع إن شاء الله. فقال له: لا تفرق بينهما لا فرق الله بينك وبين محمد في الجنة! فاستسلفها من أصحابه وصبها في حجره حتى أثقله. ودخل أبو دلامة على المهدي فأسمعه مديحاً له فيه فأعجبه وقال له: سل حاجتك. قال: كلب صيد أصطاد به. قال: قد أمران لك بكلب تصطاد به. قال: وغلام يقود الكلب. قال: وغلام يقود الكلب. قال: وخادم تطبخ لنا الصيد. قال: وخادم. قال: ودار نسكنها. قال: وداراً تسكنها. قال: وجارية آوي إليها. قال: وجارية. قال: بقي الآن المعاش. قال: قد أقطعناك ألف جريب عامر وألف جريب غامرة. قال: وما الغامرة قال: التي لا تعمر. قال: فأنا أقطع أمير المؤمنين خمسين ألفاً من فيافي بني أسد. قال: فإنا نجعلها عامرة كلها. قال: فيأذن أمير المؤمنين في تقبيل يده. قال: أما هذه فدعها. قال: ما منعتني شيئاً أيسر على أم عيالي فقداً منه. المضحكات أبو الحسن المدائني قال: خطب رجل من بني كلاب امرأة فقالت أمها: دعني حتى أسأل عنك. فانصرف الرجل فسأل عن أكرم الحي عليها فدل على شيخ منهم كان يحسن المحضر في الأمر فسأله عنه فأتاه فسأل أن يحسن عليه الثناء وانتسب له فعرفه. ثم إن العجوز غدت عليه فسألته عن الرجل فقال: أنا أعرف الناس به. قالت له: فكيف لسانه قال: مدره قومه وخطيبهم. قالت: فكيف شجاعته قال: منيع الجار حامي الذمار. قالت: فكيف سماحته قال: ثمال قوم وربيعهم. وأقبل الفتى فقال الشيخ: ما أحسن والله ما أقبل ما انثنى ولا انحنى. ودنا الفتى فسلم فقال الشيخ ما أحسن والله ما سلم ما فار ولا ثار. ثم جلس فقال الشيخ: ما أحسن والله ما جلس ما دنا ولا نأى. ثم ذهب الفتى ليتحرك فضرك فقال الشيخ: ما أحسن والله ما ضرط ما أطنها ولا أغنها ولا بربرها ولا قرقرها. ونهض الفتى خجلاً فقال: ما أحسن والله ما نهض ما ارقد ولا اقطوطى. فقالت العجوز: حسبك يا هذا وجه إليه من يرده فوالله ولو سلح في ثيابه لزوجناه. وخطب رجل امرأة فجعل يخطبها وينعظ فضرب رأس ذكره بيده وقال: مه إليك يساق أبو سويد قال: كان لحبيب بن أوس حمار حصان وغلام مؤنث فإذا نزل أخذ الحمار ينهق والغلام يمجن في كلامه. قلنا له: إنما أنت فضيحة فهل قلت فيهما شيئاً فقال: لي حمار وغلام وهما مختلفان أير ذا ينعظ للني ك وذا رخو العنان لو بهذا عف هذا لاستراح الثقلان محمد بن الحجاج البزار وكان راوية بشار قال: قال بشار ذات يوم يعبث وكان مات له حمار قبل ذلك قال: رأيت حماري البارحة في النوم فقلت له: ويلك ما لك مت قال: إنك ركبتني يوم كذا وكذا فمررنا على باب الأصبهاني فرأيت أتاناً عند بابه فعشقتها فمت. وأنشدني: سيدي مل بعناني نحو باب الأصبهاني تيمتني يوم رحنا بثناياها الحسان وبغنج ودلال سل جسمي وبراني ولها خد أسيل مثل خد الشيقران فبها مت ولو عش ت إذاً طال هواني فقال له رجل من القوم: يا أبا معاذ. ما الشيقران قال: هذا من غريب الحمير. فإذا لقيتم وقيل لأعرابي وهو واقف على ركية مالحة: كيف هذا الماء قال: يخطئ القلب ويصيب الاست. وأخذ رجل شرب فأتي به الوالي فقال: استنكهوه. فقالوا: إن نكته لا تبين عنه. قال: فقيئوه. فقال الشارب: فإن لم أقئ نبيذاً فمن يضمن لي عشائي ورافق رجل أعرابياً في سفر فقال له: أنا والله أشتي كشكية! ومد بها صوته فضرط. فقال له صاحبه: ما أسرع ما نفختك يا ابن أم. أبو الخطاب قال: كان عندنا رجل أحدب فسقط في بئر فذهبت حدبته وصار آدر فدخلوا يهنئونه فقال: الذي جاء شر من الذي ذهب!. أبو حاتم قال: رمي رجل أعور بنشابة فأصابت عينه الصحيحة فقال: أمسينا وأمس الملك لله. وقال رجل للجماز: ولدت امرأتي لستة أشهر. فقال: لقد كان أناؤها ضارباً. قالوا: أتي الحجاج بسقط قد أصيب في بعض خزائن كسري مقفل فأمر بالقفل فكسر فإذا فيه سقط آخر مقفل فقال الحجاج: من يشتري مني هذا السقط بما فيه ولا أدري ما فيه فتزايد به أصحابه حتى بلغ خمسة آلاف دينار فأخذه الحجاج ونظر فيه فقال: ما عسى أن يكون فيه إلا حماقة من حماقات العجم! ثم أنفذ البيع وعزم المشتري أن يفتحه ويريه ما فيه ففتحه بين يديه فإذا فيه رقعة مكتوب فيها: من أراد أن تطول ليحته فليمشطها من أسفل. الزبير بن بكار قال: جاءت امرأة إلى ابن الزبير تستعدي على زوجها وتزعم أنه يصيب جاريتها فأمر به فأحضر فسأله عما ادعت فقال: هي سوداء وخادمها سوداء وفي بصري ضعف ويضرب الليل برواقه وإنما آخذ من دنا مني. قال: وخطب رجل خطبة نكاح وأعرابي حاضر فقال: الحمد الله أحمده وأستعينه وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله حي على الصلاة حي على الفلاح. فقال الأعرابي: لا تقم الصلاة فإني على غير وضوء. وقال: سمعت أبا موسى عيسى الضمري يقول: دخلت الحمام فإذا بأعمى قد ركب أعمى فقال له: ما هذا قال: ظلمات بعضها فوق بعض. وقال العوام بن حوشي: قال لي عيسى بن موسى: من أرضعتك قلت: ما أرضعني خلق سوى أمي. قال: قد علمت أن ذلك الوجه القبيح لا يصبر عليه سوى أمك. كان رجل مقيت قد تنسك وتشبه بالحسن البصري فشهد جنازة فوقف على القبر وإلى جنبه رجل مليح فضحك فقال له الناسك: ما أعددت لهذه الحفرة يا فلان قال: قذفك فيها ودخل أعرابي الحمام فضرط فقال نبطي كان في الحمام: جبحان الله! فقال له الأعرابي: يا ابن اللخناء لكن ضرطتي أفصح من تسبيحك. وقيل لأعرابي: مالك لا تجاهد قال: والله إني لأبغض الموت على فراشي فكيف أن أسعى إليه راكضاً. واستشهدوا أعرابياً على رجل وامرأة زنياً فقيل له: أرأيته داخلاً وخارجاً كالمرود في المكحلة فقال: والله ما كنت أرى هذا لو كنت جلدة استه. وجد منبوذ بضفة العراق وعند رأسه مائة دينار ورقعة مكتوب فيها: " أنا الشقي ابن الشقية وابن القدح والرطلية وابن البغي والبغية وابن الأبقال الطرية من كفلني فله هذه المائة ". السندي بن شاهك قائد الخليفة قال: بعث إلي المأمون بريداً وأنا بخراسان فطويت المراحل حتى أتيت باب أمير المؤمنين وقد هاج بي الدم وانصرفت إلى منزلي فقلت: أحضروا إلي الحجام. قالوا: هو محموم. قلت: فهاتوا حجاماً غيره ولا يكون فضولياً. فأتوني به فما هو إلا أن دارت يداه على وجهي حتى قال: جعلت فداك هذا وجه ما أعرفه فمن أنت قلت: السندي بن شاهك. قال: قال: ومن أين قدمت فإني أرى أثر السفر عليك قلت: من خراسان. قال: وأي شيء أقدمك قلت: وجه إلي أمير المؤمنين بريداً ولكن إذا فرغت سأخبرك بالقصة على وجهها. قلت: وتعرفني بالمنازل والسكك التي جئت عليها قلت: نعم. قال: فما كان إلا أن فرغ ودخل رسول أمير المؤمنين ومعه كركي فقال: إن أمير المؤمنين يقرئك السلام وهو يعذرك فيما هاج بك من الدم وقد أمرك بالتخلف في منزلك هذا إلى أن تغدوا عليه إن شاء الله. ويقول: ما أهدي إلينا اليوم غير هذا الكركي شأنك به. قال: فالتفت السندي إلى جلسائه فقال: ما يصنع بهذا الكركي فقال الحجام: يطبخ سكباجا. قال السندي: يصنع كما قال. وحلف على الحجام أن لا يبرح فحضر الغداء فتغدينا وهو ينظر ثم قدم الشراب فلما دارت الأقداح قلت: يعلق الحجام في العقابين. ثم قلت: جعلت فداك إنك سألتني عن المنازل والسكك التي قدمت عليها وأنا مشغول في ذلك الوقت وأنا أقصها عليك فاسمع: خرجت من خراسان وقت كذا فنزلت بمكان كذا يا غلام: اضرب. فضربه عشرة أسواط ثم قلت: وخرجت منه إلى مكان كذا يا غلام أوجع. فضربه عشرة أسواط أخرى ولم يزل يضربه لكل سكة عشرة حتى انتهى إلى سبعين سوطاً فالتفت إلي الحجام وقال: يا سيدي: سألتك بالله إلى أين تريد أن تبلغ قلت: إلى بغداد. قال: لست تبلغ بغداد حتى تقتلني قلت: فأتركك على ألا تعود قال: والله لا عدت أبداً. قال: فتركته وأمرت له بسبعين ديناراً فلما دخلت على المأمون أخبرته الخبر فقال: وددت أنك بلغت به إلى أن تأتي على نفسه. أتت جارية أبا ضمضم فقالت: إن هذا قبلني. قال لها: قبليه فإن الله يقول: " وارتفع رجلان إلى أبي ضمضم فقال أحدهما: أبقاك الله إن هذا قتل ابني. قال: هل لابنك أم قال: نعم قال: ادفعها إليه حتى يولدها لك ولداً مثل ولدك ويربيه حتى يبلغ ولدك ويبرأ به إليك. وكان بالمدينة أعمى يكنى أبا عبد الله أتى يوماً يغتسل من عين فدخل بثيابه فقيل له: بللت ثيابك. قال: تبتل علي أحب إلي من أن تجف على غيري. وفي كتاب للهند أن ناسكاً كان له سمن في جرة معلقة على سريره ففكر يوماً وهو مضطجع على السرير وبيده عكاز فقال: أبيع الجرة بعشرة دراهم وأشتري بها خمسة أعنز فأولدهن في كل سنة مرتين فيبلغ النتاج في عشر سنين مائتين وأبيعهن فأبتاع بكل عشرة بقرة ثم ينمى المال بيدي فأبتاع العبيد والإماء ويولد لي ولد فآخذ به في الأدب. فإن عصاني ضربته بهذه العصا. وأشار بالعصا فأصاب الجرة فانكسرت وصب السمن على وجهه ورأسه. الزبير قال: حدثنا بكار بن رباح قال: وكان بمكة رجل يجمع بين الرجال والنساء ويحمل لهم الشراب فشكي إلى عامل مكة فغربه إلى عرفات فبني بها منزلاً وأرسل إلى إخوانه فقال: ما يمنعكم أن تعاودوا ما كنتم فيه قالوا: وأين بك وأنت في عرفات فقال: حمار بدرهم وقد صرتم على الأمن والنزهة. ففعلوا فكانوا يركبون إليه حتى فسدت أحداث مكة فعادوا بشكايته إلى والي مكة فأرسل فيه فأتي به فقال: يا عدو الله طردتك من حرم الله فصرت بفسادك إلى المشعر الأعظم. فقال: يكذبون علي أصلح الله الأمير. فقال: دليلنا أصلحك على ما نقول أن تأمر بحمير مكة فتجمع وترسل بها أمناء إلى عرفات ويرسلونها فإن لم تقصد لمنزلة من بين المنازل كعادتها إذ ركبها السفهاء فنحن غير مبطلين. فقال الوالي: إن في هذا دليلاً وشاهداً عدلاً. فأمر بحمير من حمير الكراء فجمعت ثم أرسلت فصارت إلى منزله كما هي من غير دليل فأعلمه بذلك أمناؤه فقال: ما بعد هذا شيء جردوه. فلما نظر إلى السياط قال: لا بد أصلحك الله من ضربي قال: نعم يا عدو الله. قال: والله ما في ذلك من شيء هو أشد علي من أن يشمت بنا أهل العراق ويضحكوا منا ويقولوا: أهل مكة يجيزون شهادة الحمير. قال: فضحك الوالي وخلى سبيله. ولقي رجل امرأة جميلة فجعل يتعرضها وألح عليها فدخلت درباً وكشفت عن وجه قد شاكر البدر حسنه وقالت له: انظر ما يسخن عينك ويقوم له أيرك وينيكه غيرك. وهنأ رجل رجلاً في عرسه فقال: باليمن والبركة وشدة الحركة والظفر في المعركة. الهيثم بن عدي قال: بينا أنا بكناسة الكوفة إذا برجل مكفوف البصر قد وقف على نخاس من نخاسي الدواب فقال له: أبغي حماراً ليس بالصغير المحتقر ولا بالكبير المشتهر إذا خلا له الطريق تدفق وإذا كثر الزحام ترفق وإن أقللت علفه صبر وإن أكثرته شكر وإذا ركبته هام وإن ركبه غيري نام. قال له النخاس يا عبد الله اصبر فإذا مسخ الله القاضي حماراً أصبت به حاجتك إن شاء الله. قال: ودخل رجل السوق في شراء فرس فقال له النخاس: صفه لي. فقال: أريده حسن القميص جيد الفصوص وثيق العصب نقي القصب يشير بأذنيه ويتشوف برأسه ويخطر بيديه ويدحو برجليه كأنه موج في لجة أو سيل في حدور أو منحط من جبل. فقال له النخاس: نعم كذلك كان صلوات الله عليه. قال: إنما أصف لك فرساً قال: ما حسبتك إلا في وصف نبي منذ اليوم. قال: ودخل أبو نخيلة اليمن فلم ير بها أحداً حسناً ورأى نفسه وكان قبيحاً أحسن من بها فقال: لم أر غيري حسناً منذ دخلت اليمنا ففي حر أم بلدة أحسن من فيها أنا محمد بن إسحاق قال: قال سفيان بن عيينة: دخلت الكوفة في يوم فيه رذاذ من مطر فإذا أنا بكناس قد فتح كنيفاً ووقف على رأس البئر وهو يقول: بلد طيب ويوم مطير هذه روضة وهذا غدير ثم قال لصاحبه: انزل فيها. فأبى عليه فنزل وهو يقول: لم يطيقوا أن ينزلوا ونزلنا وأخو الحرب من أطاق النزولا الأصمعي قال: بينا أنا سائر بالفيفاء إذ سمعت صوتاً يقول: جنبوني ديار هند وسعدى ليس مثلي يحل دار الهوان قال: فالتفت يمنة ويسرة فإذا أنا بالصوت يخرج من حش فأقبلت حتى وقفت عليه فإذا بحشاش وبيده كأس فقلت: يا سبحان الله أنت في بيت عذرة وتقول: ليس مثلي يحل دار الهوان فإنى لك وأي هوان أكثر مما أنت فيه قال: فرفع رأسه إلي وقال: لا تلمني فإنني نشوان أنا في الملك ما سقتني الدنان فقلت: ما هو إلا كقول الآخر: أعظم ذنبي عندكم ودي فليت هذا ذنبكم عندي يا حسرتا أهلك وجداً بمن لا يعرف الشكوى من الوجد حماد الرواية قال: أتيت مكة فجلست في حلقة منها فيها عمر بن أبي ربيعة القرشي وإذا هم يتذاكرون العذريين وعشقهم وصبابتهم فقال عمر بن أبي ربيعة: أحدثكم عن بعض ذلك كان لي خليل من عذرة يكنى أبا مسهر وكان مستهتراً بأحدايث النساء يصبو بهن وينشد فيهن على أنه كان لا عاهر الخلوة ولا حديث السلوة وكان يوافي الموسم في كل سنة فإذا أبطأ ترجمت له الأخبار واستوقفت له السفار. وإنه راث عني سنة من ذلك خبره حتى قدم وفد عذرة فأتيت القوم أنشد صاحبي فإذا رجل يتنفس الصعداء فقال: أعن أبي مسهر تسأل قلت: نعم. قال: هيهات هيهات! أصبح والله أبو مسهر لا حياً فيرجى ولا ميتاً فينسى ولكنه كما قال الشاعر: لعمرك ما حبي لأسماء تاركي صحيحاً ولا أقضي به فأموت فقلت: وما لذي به قال: كمثل الذي بك من انهماككما في الضلال وجركما أذيال الخسار كأنكما لم تسمعا بجنة ولا انر. قلت: فما أنت منه يا ابن أخي قال: أخوه. قلت: والله إنك وأخاك كالوشي والبجاد لا يرقعك ولا ترقعه. ثم انطلقت وأنا أقول: خليلي يشكو ما يلاقي من الهوى ومهما يقل أسمع وإن قلت يسمع ألا ليت شعري أي شيء أصابه أمن زفرات هجن من بين أضلع فلا يبعدنك الله خلاً فإنني سألقى كما لاقيت في الحب مصرعي قال: فلما حججت ووقفت بعرفات إذا به قد أقبل وقد تغير لونه وساءت هيئته وما عرفته إلا بناقته فأقبل " فأدنى ناقته من ناقتي " حتى خالف بين أعناقهما ثم اعتنقني وجعل يبكي فقلت له: ما الذي دهاك قال: برح الخفاء وكشف الغطاء. ثم أنشد يقول: لئن كانت عديلة ذات مطل لقد علمت بأن الحب داء وإنك لو تكلفت الذي بي لزال الظلم وانكشف الغطاء فإن معاشري ورجال قومي حتوفهم الصبابة واللقاء إذا العذري مات بحتف أنف فذاك العبد يبكيه الرشاء فقلت: يا أبا مسهر إنها ساعة عظيمة تضرب فيها أكباد الإبل من شرق الأرض وغربها فلو دعوت الله كنت قمناً أن تظفر بحاجتك وتنصر على عدوك فجعل يدعو حتى إذا مالت الشمس للغروب وهم الناس أن يفيضوا سمعته يهينهم بشيء فأصغيت إليه مستمعاً فجعل أنت حسيب الخلق يوم الدوحه فقلت له: وما يوم الدوحة قال: سأخبرك إن شاء الله ولو لم تسألني فيممنا نحو المزدلفة فأقبل علي وقال: إني رجل ذو مال كثير ونعم وشاء وإني خشيت على مالي عام أول التلف فأتيت أخوالي كلباً فأوسعوا لي عن صدر المجلس وسقوني جمة البئر وكنت منهم في خير أحوال ثم إني عزمت على مرافقة أهل ماء لهم يقال له الحوادث فركبت يوماً فرسي وعلقت معي شراباً أهداه إلي بعض الكلبيين فانطلقت حتى إذا كنت بين الحي ومرعى النعم رفعت لي دوحة عظيمة فقلت: لو نزلت تحت هذه الشجرة ثم تروحت مبرداً! ففعلت فشددت فرسي بغصن من أغصانها ثم جلست تحتها فإذا بغبار قد سطع من ناحية الحي ثم تبينت فبدت لي شخوص ثلاثة فإذا فارس يطرد مسحلاً وأتانا فلما قرب مني إذا عليه درع أصفر وعمامة خز سوداء فما لبث أن لحق المسحل فطعنه فصرعه ثم ثنى طعنة للأتان وأقبل وهو يقول: نطعنهم سلكى ومخلوجة كرك لأمين على نابل فقلت له: إنك قد تعبت وأتعبت فلو نزلت فثنى رجله فنزل فشد فرسه بغصن من أغصان الشجرة ثم أقبل حتى جلس معي فجعل يحدثني حديثاً ذكرت به قول الشاعر: فبينا هو كذلك إذ نكت بالسوط على ثنيتيه فما ملكت نفسي أن قبضت على السوط فقلت: مه. قال: ولم قلت: إني أخاف أن تكسرهما إنهما رقيقتان عذبتان. قال: فرفع عقريته وجعل يتغنى: إذا قبل الإنسان آخر يشتهي ثناياه لم يأثم وكان له أجرا وقال: ما الذي تعلقت في سرجك قلت: شراب أهداه إلي بعض أهلك فهل لك فيه قال: ما نكرهه إذا كره. فأتيته به فوضعته بيني وبينه فلما شرب منه شيئاً نظرت إلى عينيه كأنهما عينا مهاة قد أضلت ولدها ثم رفع عقيرته يتغنى: إن العيون التي في طرفها مرض قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا الحلم حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا ثم قمت لأصلح من أمر فرسي فرجعت وقد حسر العمامة عن رأسه وإذا غلام كأن وجهه دينار هرقلي فقلت: سبحانك اللهم ما أعظم قدرتك. قال: كيف قلت: ذلك لما راعني من نورك وبهرني من جمالك. قال: وما الذي يروعك من رزق الدواب ونبيش التراب ثم لا يدري أينعم أم يبؤس قلت: لا يصنع الله بك إلا خيراً. ثم قام إلى فرسه فلما أقبل برقت لي بارقة من تحت الدرع فإذا ثدي كأنه حق عاج. قلت: نشدتك الله امرأة قالت: إي والله امرأة تكره العهر وتحب الغزل. قلت: وأنا والله كذلك. قال: فجلست والله تحدثني ما أفقد من أنسها شيئاً حتى مالت على " الدوحة " سكرى. فاستحسنت والله يا بن أبي ربيعة الغدر وزين في عيني ثم إن الله عصمني منه فما لبثت أن انتهيت معذورة فلاثت عمامتها برأسها وأخذت الرمح وجالت في متن فرسها فقلت: مضيت ولم تزوديني منك زاداً. فأعطتني بنانها فتمسحت والله منها كالنبات الممطور زهر الثلج. ثم قلت: أين الموعد قالت: إن لي إخوة شوساً وأباً غيوراً والله لأن أسرك أحب إلي من أضرك. ثم مضت فكان والله آخر العهد بها إلى يومي هذا وهي التي بلغتني هذا المبلغ وأحلتني هذا المحل. قال: فدخلتني له رقة. فلما انقضى الموسم شددت على ناقتي وشد على ناقته وحملت غلاماً لي على بعير وحملت عليه قبة حمراء من أدم كانت لأبي ربيعة وأخذت معي ألف دينار ومطرف خز ثم خرجنا حتى أتينا بلاد كلب فإذا الشيخ في نادي قومه فسلمت عليه فقال: وعليك السلام من أنت فقلت: عمر بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي. قال: أنت الكفء الكفي الذي لا يرغب عن وصله والرجل الذي لا يرد عن حاجته. قال: قلت: إني لم آتك لنفسي وإن كنت في موضع الرغبة ولكنني أتيتكم لابن أختكم العذري. قال: والله إنه لكفء الحسب كريم النسب غير أن بناتي لم يعرفن هذا الحي من قريش. قال: فعرف الجزع من ذلك في وجهي فقال: أما إني أصنع بك ما لم أصنع لغيرك أخيرها في نفسها فهي وما اختارت. فقلت: خيرها. فأرسل إليها أن من الأمر كذا وكذا فري رأيك. فقالت: ما كنت لأستبد برأي دون رأي القرشي خياري ما اختار. قال: قدر ردت الأمر إليك. قال: فحمدت الله وصليت على النبي صلى الله عليه وسلم وقلت: قد زوجتها العذري وأصدقتها هذه الألف الدينار وجعلت تكرمتها العبد والبعير والقبة وكسوت الشيخ المطرف فسر به وسألته أن يبني بها من ليلته فأجابني إلى ذلك فضربت القبو في وسط الحي وهديت إليه ليلاً وبت عند الشيخ في خير مبيت فلما أصبحت غدوت فقمت بباب القبة فخرج إلي وقد تبين الجذل فيه فقلت: كيف كنت بعدي أبا مسهر قال: أبدت لي كثيراً مما كانت أخفته يوم رأيتها فقلت: أقم على أهلك بارك الله لك. ثم انطلقت إلى أهلي وأنا أقول: كفيت الفتى العذري ما كان نابه ومثلي لأثقال النوائب أحمل أما استحسنت مني المكارم والعلا إذا صرحت أني أقول وأفعل حدث أبو محمد الشعبي الوراق وكان عند باب خراسان على رأس الجسر الأول عن حماد بن إسحاق عن أبيه إسحاق بن إبراهيم من ميمون الموصلي قال: بينا أنا ذات يوم عند المأمون وقد خلال وجهه وطابت نفسه إذ قال لي: يا إسحاق هذا يوم خلوة وطيب. فقلت: طيب الله عيش أمير المؤمنين وأدام سروره وفرحه. فقال: يا غلمان خذوا علينا الباب وأحضروا الشراب. قال: ثم أخذ بيدي وأدخلني في مجالس غير المجالس التي كنا فيها وإذا قد نصبت الموائد وأصلح كل ما كان يحتاج إليه الحال حتى كأنه شيء قد كان تقدم فيه. قال: فأكلنا وأخذنا في لذتنا وشربنا فأقبلت الستيرات من كل ناحية بضروب من الغناء وصنوف من اللهو فلم نزل على ذلك إلى آخر النهار فلما غربت الشمس قال لي: يا إسحاق خير أيام الفتي أيام الطرب. قلت: هو والله ذاك يا أمير المؤمنين. قال: فإني قد فكرت في شيء فهل لك فيه قلت: يا سيدي أو أتأخر عن رأي أمير المؤمنين أطال الله بقاءه. قال: لعلنا نباكر الصبوح في غدوتنا هذه وقد عزمت على دخلة إلى دار الحرم فكن بمكانك ولا ترم فإني أوافيك عن قريب. قال: قلت: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين. ثم نهض إلى دار النساء فما عرفت له خبراً إلى أن ذهب من الليل عامته. قال إسحاق: وكان المأمون من أشغف خلق الله بالنساء وأشدهم ميلاً إليهن واستهتاراً بهن وعلمت أن النبيذ قد غلب عليه وأنهن قد أنسينه أمري وما كان تقدم إلي ووعدني من سرعة رجوعه فقلت في نفسي: هو أعزه الله في لذته وأنا هنا هنا في يغير شيء وفي بقية وعندي صبية كنت قد اشتريتها وكانت نفسي متطلعة إلى افتضاضها فنهضت مسرعاً عند ذكرها فقال الخادم: على أي شيء عزمت وإلى أين تريد قلت: أريد الانصراف. قالوا: فإن طلبك أمير المؤمنين قلت: إنه أدام الله سروره قد شغله الطرب ولذة ما هو فيه عن طلبه وقد كان بيني وبينه موعد قد جاوز وقته ولا وجه لجلوسي. قال إسحاق: وكنت مقدم الأمر في دار المأمون مقبول القول فيه لا أعارض في الشيء إذا أومأت إليه فخرجت مبادراً إلى باب الدار فلقيني غلمان الدار وأصحاب النوبة. فقالوا: يا سيدنا إن غلمانك قد انصرفوا وكانوا قد جاءوك بدابة فلما علموا بمبيتك انصرفوا. قلت: لا ضير فأنا أتمشى إلى البيت وحدي. قالوا: نحضرك دابة من دواب النوبة. قلت: لا حاجة لي في ذلك. قالوا: فنمضي بين يديك بمشعل. قلت: لا ولا أريد أيضاً ذلك. وأقبلت وحدي نحو البيت حتى إذا صرت ببعض الطريق أحسست بحركة البول فعدلت إلى بعض الأزقة لئلا يجوز بي أحد منن العوام فيراني أبول على الطريق فبلت حتى إذا قمت للتمسح ببعض الحيطان إذا أنا بشيء معلق من تلك الدور إلى الزقاق فما تمالك أن تمسحت حتى دنوت إلى ذلك الشيء لأعرف ما هو فإذا بزنبيل كبير معلق بأربع آذان وإذا هو ملبس ديباجاً وفيه أربعة أحبل إبريسم فلما نظرت إليه وتبينته قلت: والله إن لهذا لسبباً وإن له لأمراً. فأمت ساعة أروي في أمره وأفكر فيه حتى إذا طال ذلك بي قلت: والله لأتجاسرن ولأجلسن فيه كائناً في ذلك ما كان. ثم لففت رأسي بردائي وجلست في جوف الزنبيل فلما أحس من كان على ظهر الحائط بثقله جذبوا الزنبيل إليهم حتى انتهوا إلى رأس الحائط فإذا بأربع جوار وإذا هن يقلن: انزل بالحرب والسعة أصديق أم جديد فقلت: لا بل جديد. فقلت: أنت يا جرية بين يديه الشمعة. فابتدرت إحداهن إلى طست فيه شمعة وأقبلت بين يدي حتى نزلت إلى دار نظيفة بها من الحسن والظرف والنظافة ما حرت له ثم أدخلتني إلى مجالس مفروضة ومناص مرصوص بصنوف من الفرش الذي لم أر مثله إلا في دار ملك أو خليفة فجلست في أدني مجلس من تلك المجالس فما شعرت بعد ساعة إلا بضجة وجلبة وستور قد رفعت من ناحية من نواحي الدار وإذا بوصائف يتساعين في أيدي بعضهن الشمع وبعضهن المجامر يسجر فيها العود والند وإذا بينهن جارية كأنها تمثال عاج تتهادى بينهم كالبدر الطالع بقد يزرى على الغصون ودل وشكل فما تمالكت عند رؤيتها أن نهضت فقالت: مرحباً بك من زائر أتى وليست تلك عادته. وجلست ورفعت مجلس عن الموضع الذي كنت فيه. فقالت: كيف كان ذا والله لي ولك ولا علم كان وقع لي فما السبب قال: قلت: انصرفت من عند بعض إخواني وظننت أني على وقت فخرجت في وقت ضيق وأخذني البول فأخذت إلى هذا الطريق فعدلت إلى هذا الزقاق فوجدت زنبيلاً معلقاً فحملني النبيذ على أن جلست فيه فإن كان خطأ فالنبيذ أكسبنيه وإن كان صواباً فوالله ألهمنيه. قالت: لا ضير إن شاء الله وأرجوا أن تحمد عواقب أمرك فما صناعتك قلت: بزاز. قالت: وأين مولدك قلت: بغداد. قالت: ومن أي الناس أنت قلت: من أفنائهم وأوساطهم. قالت: حياك الله وقرب دارك فهل رويت من الأشعار شيئاً قلت: شيئاً يسيراً. قالت: فذاكرنا بشيء مما حفظت. قلت: جعلت فداك إن للداخل دهشة وفي انقباض ولكن تبتدئي بشيء من ذلك فالشيء يأتي بالمذاكرة. قالت: لعمري لقد صدقت فهل تحفظ لفلان قصيدته التي يقول فيها كذا وكذا ثم أنشدتني لجماعة من الشعراء القدماء والمحدثين من أحسن أشعارهم وأجود أقاويلهم وأنا مستمع أنظر من أي أحوالها أعجب: من ضبطها أم من حسن لفظها أم من حسن أدبها أم من حسن جودة ضبطها للغريب أم من اقتدارها على النحو معرفة أوزان الشعر ثم قالت: أرجو أن يكون ذهب عنك بعض ما كان من الحصر والانقباض والحشمة. فقلت: إن شاء الله لقد كان ذلك. قالت: فإن رأيت أن تنشدنا من بعض ما تحفظ فافعل. قال: فاندفعت أنشد لجماعة من الشعراء فاستحسنت نشيدي وأقبلت تسألني عن أشياء تمر في شعري كالمختبرة لي وأنا أجيبها بما أعرف في ذلك وهي مصغية إلي ومستحسنة لما آتي به حتى إذا أتيت على ما فيه مقنع قالت: والله ما قصرت وما توهمت فيك ما ألفيت وما رأيت في أبناء التجار وأبناء السوقة مثل ما معك فكيف معرفتك بالأخبار وأيام الناس قلت: قد نظرت في شيء من ذلك. فقالت: يا جارية أحضرينا ما عندك. فما غابت عنا شيئاً حتى قدمت إلينا مائدة لطيفة قد جمع عليها غرائب الطعام السري فقالت: إن الممالحة أول الرضاع فدونك. فتقدمت فأقبلت أعتذر بعض الاعتذار وهي مع ذلك تحثني وتضع بين يدي وإن لمتقسم القلب لما أرى من ظرفها وعقلها وحسن خفرها وكثرة أدبها حتى رفعت المائدة وأحضرت آنية النبيذ فوضعت بين يدي صينية وقنينة وقدح ومغسل وبين يديها مثل ذلك وفي وسط المجلس من صنوف الرياحين وغرائب الفواكه ما لم أره اجتمع لأحد إلا لولي عهد أو سلطان قد عبئ أحسن تعبئة وهيء بأحسن تهيئة. قال إسحاق: فتثاقلت عن الشرب لتكون هي التي تبتدئ. فقالت: ما لي أراك متوقفاً عن الشرب قلت: انتظاراً لك. جعلت فداك. فسكبت قدحاً فشربت ثم سكبت قدحا آخر فشرب ثم قالت: هذا أوان المذاكرة فإن المذاكرة بالأخبار وذكر أيام الناس مما يطرب. قلت: لعمري أن هذا لمن أوقاته. فاندفعت فقلت: بلغني أنه كان كذا وكذا وكان رجل من الملوك يقال له فلان بن فلان وكان من قصته كذا وكذا حتى مررت بعد أخبار حسان من أخبار الملك وما لا يتحدث به إلا عند ملك أو خليفة فسرت بذلك سروراً شديداً ثم قالت: والله لقد حدثتني بأحاديث حسان ولقد كثر تعجبي من أن يكون أحد من التجار يحفظ مثلها وإنما هي من أحاديث الملوك وما لا يتحدث به إلا عن ملك أو خليفة. فقلت لها: جعلت فداك إنه كان لي جار ينادم بعض الملوك وكان حسن المعرفة كثير الحفظ فكان ربما تعطل عن نوبته التي كان يذهب فيها إلى دار صاحبه لشغل يمنعه من ذلك أو لأمر يقطع فأمضي إليه وأعزم عليه وأصير به إلى منزلي فربما أخبرني من هذه الأحاديث شيئاً إلى أن صرت من خاصة أخدانه وممن كان لا يفارقه. ما سمعت مني فمنه أخذته وعنه استفدته. فقالت: يجب أن يكون هذا كذا. ولعمري لقد حفظت فأحسنت الحفظ وما هذا إلا لقريحة جيدة وطبع كريم. قال إسحاق: وأخذنا في شيء من الشراب والمذاكرة ابتدئ الحديث فإذا فرغت ابتدأت هي في آخر أحسن به حتى قطعنا بذلك عامة الليل والند والعود وفائق البخور في المجلس يجدد ويسجر وأنا في حالة لو توهمها المأمون وتأملها لاستطار فرحاً وسروراً. ثم قالت لي: يا أبا فلان - وكنت قد غيرت عليها اسمي وكنيتي - والله إني لأراك كاملاً وفي الرجال فاضلاًن وإنك لوضئ الوجه مليح الشكل بارع الأدب وما كان بقي عليك إلا شيء واحد حتى تكون قد برعت وبرزت. فقلت: وما هو يا سيدتي دفع الله عنك الأسواء قالت: لو كنت تحرك بعض الملاهي أو تترنم ببعض الأشعار. فقلت: والله لقدماً اشتهيته وطالما كلفت به وحرصت عليه فلم أرزقه ولا وجدتني ممن تعلق بشيء منه فلما طال عنائي به وكلما تقدمت في طلبه كنت منه أبعد وعنه أذهب تركته وأعرضت عنه وإن في قلبي من ذلك لحرقة وحرارة وإني لمستهتر به مائل إليه وما أكره أن أسمع في مجلسي هذا من جيده شيئاً لتكمل ليلتي ويطيب عيشي. قالت: كأنك قد عرضت بنا. فقلت: لا والله ما هو تعريض ولا هو إلا تصريح وقد بدأت بالفضل وأنت حرية باستتمام ما بدأت به فقالت: يا جارية عود. فأحضرت العود فأخذته فما هو إلا أن جسته حتى ظننت أن الدار قد سارت بي وبمن فيها واندفعت تغني بصوت ما ظننت أحداً يغني به مع صحة إيماء وجودة ضرب فقلت: والله لقد أكمل الله فيك خلال الفضل وحباك بالكمال الرائع والعقل الوافر والأخلاق المرضية والأفعال السنية فقالت: هل تعرف لمن هذا الصوت ومن غنى به فقلت: لا والله. قالت: الغناء لفلان والشعر لفلان وكان من سببه كذا وكذا. فقلت: هذا والله أحسن من الغناء. فلم تزل تلك حالها في كل صوت تغنيه وهي مع ذلك تشرب وأشرب حتى إذا كان عند انشقاق الفجر أو قبله جاءت عجوز كأنها داية لها فقالت: أي بنية إن الوقت قد حضر فإذا شئت فانهضي. قال: فلما سمعت مقالها نهضت فقالت: عزمت قلت: إي والله. فقالت: مصاحباً عليك بستر ما كنت فيه فإن المجالس بالأمانة. فقلت: جعلت فداك أو أحتاج إلى وصية في ذلك فودعتها وودعتني وقالت: يا جارية بين يديه. فأتي بي باب في ناحية الدار ففتح لي وخرجت منه إلى طريق مختصرة وبادرت البيت فصليت الصبح ووضعت رأسي فما انتبهت إلا برسل الخليفة على الباب فقمت وقد أسرج لي فركبت إلى الدار فسرت إليه فلما مثلت بين يدي المأمون قال لي: يا إسحاق جفوناك ما كنا ضمناه لك وتشاغلنا عنك. فقلت: يا سيدي ليس شيء آثر عندي ولا أسر إلا قلبي من سرور يدخل على أمير المؤمنين فإذا كمل سروره وطاب عيشه فعيشنا طيب وسرورنا بسروره متصل. ثم قال: ما كانت حالك قلت: يا سيدي كنت قد اشتريت صبية من السوق وكنت معلق القلب بها فلما تشاغل أمير المؤمنين أطال الله بقاء وخلوت وقد كانت في بقية طالبتني نفسي بها فمضيت مسرعاً فأحضرتها وأحضرت نبيذاً فسقيتها وشربت معها وغلب علي السكر فقطعني عما أردت وذهب بي النوم إلى أن أصبحت. فقال: لي: ما أكثر ما يتهيأ على الناس من هذا فهل لك في مثل ما كنا فيه أمس فقلت: يا أمير المؤمنين وهل أحد يمتنع من ذلك قال: فإذا شئت. فنهض ونهضت فصرنا إلى المجلس الذي كنا فيه بالأمس على مثل حالنا تلك وأفضل حتى إذا كان في الوقت وثب قائماً فقال: يا إسحاق لا ترم فإني أجيئك وقد عزمت على الصبحة فما هو إلا أن توارى عني حتى ضرب بي وتأملت ما كنت فيه فإذا هو شيء لا يصبر عنه غلا جاهل ولو بزوال نعمته. قال: فنهضت فقال لي الغلمان: الله الله فإن البارحة قد أنكر علينا نخليتك وطالبنا بك وقال: لم تركتموه ولا نحسبك إلا تحب الإيقاع بنا. فقلت: والله لا نال أحدكم بسببي مكروه أبداً ولكن أبادر الحاجة والله لا كان لي حبس ولا لبث وأمير المؤمنين أطال الله بقاءه إذا دخل أبطأ وأنا موافيكم قبل خروجه إن شاء الله. قال: فنهضت فما شعرت إلا وأنا في الزقاق فوافيت الزنبيل على ما كان عليه فقعدت فيه وصعدت وصرت إلى الموضع الذي أعرف فلم ألبث إلا هنيهة وإذا بها قد طلعت فقالت: ضيفنا قلت: إي والله. قالت: أو قد عاودت قلت: نعم ولا أظن إلاأني قد ثقلت. فقالت: مادح نفسه يقرئك السلام. فقلت: هفوة فمني بالصفح. قالت: قد فعلنا فلا تعد. قلت: إن شاء الله. قال: ثم جلسنا وأخذنا فيما كنا فيه من المذاكرة والإنشاد وأحضرنا النبيذ ولم نزل على تلك الحال وأفضل وقد أنست وانبسطت بعض الانبساط وهي مع ذلك لا تزال تقول لي: أوه لو كنت الآن على ما أنت عليه وأحكمت من تلك الصنعة شيئاً لقد تناهيت وبرعت. فقلت: والله لقد حرصت على ذلك وجهدت فيه فما رزقته ولا قدرت عليه. ثم قلت: يا جعلت فداك لا تخلينا مما كان من فضلك البارحة لا تخلينا منه. فتأخذ في الأغاني وكلما مر صوت حسن طيب وجيد بالغ قالت: يا فتى أتدري لمن هذا فأقول: لا. فتقول: لإسحاق. فأقول وإسحاق هكذا جعلت فداك في الحذق فتقول: بخ إسحاق تاريخ هذا الشأن بديع الصوت وعتيق الغناء! فأقول: سبحانك الله لقد أعطى إسحاق ما لم يعطه أحد. فتقول: ولو سمعت هذا منه لكنت أشد استحساناً له وبه أشد كلفاً. حتى إذا كان الوقت وجاءت العجوز نهضت وودعتها وبادرت بين يدي جارية ففتحت الباب فخرجت منه. وبادرت المنزل فتوضأت للصلاة وصليت الصبح ووضعت رأسي فنمت فما انتبهت إلا برسل الخليفة يطلبونني فقمت وقد أسرج لي فركبت إلى الدار فما هو إلا أن مثلت بين يدي المأمون حتى قال: يا إسحاق أبيت إلا مكافأة لنا ومعاملة بمثل ما استعملناه معك! قلت: لا والله يا أمير المؤمنين ما إلى ذلك ذهبت ولا إليه قصدت ولكني ظننت أن يكون أمير المؤمنين قد تشاغل عني بلذته وأغفل أمري. وجاءني الشيطان فأذكرني أمر الجارية فبادرت إلى البيت. قال: وكان من أمرك ماذا قلت: قضيت الحاجة. وفرغ الأمر. فقال: قد انقضى ما كان بقلبك منها وواحدة بواحدة والبادي أظلم. فقلت: بل أنا يا أمير المؤمنين ألوم وأظلم وإليك المعذرة. فقال: لا تثريب عليك هل لك في مثل حالنا الأول قلت: إي والله. قال: فانهض بنا. وقام وقمت حتى إذا صرنا إلى الموضع الذي كنا فيه أخذنا في لذتنا وشربنا حتى إذا كان في الوقت قال لي: يا إسحاق ما عزمك قتل: لا عزم لي يا أمير المؤمنين. قال: فعزمت إليك لتجلسن حتى أخرج إليك لنصطبح فإني عازم على الصبوح وقد نغصت علي ذلك مذ يومان. قلت: فالليلة إن شاء الله. وطرحت الستارات ودخل إلى الحرم فما هو إلا أن توارى عني حتى ضرب بي وقمت وقعدت وجالت وساوسي وجعل أفكر في مجلس معها ومكانها ومحادثتها والنظر إليها وفي الخروج عن طاعة المأمون وما يلحقني في ذلك من سخطه وموجدته فيسهل علي كل صعب إذا فكرت في أمرها. قال: فوثبت مبادراً فاجتمع علي جند الدار فقالوا لي: أين تريد فقلت: الله فإن لي قصة وأنا معلق القلب ببعض من في منزلي وأحتاج إلى مطالعتهم في بعض الأمر. فقالوا: ليس إلى تركك من سبيل. قال: فلم أزل أرفق بهذا وأطلب إلى هذا وأقبل رأس هذا ووهبت خاتمي لواحد وردائي لآخر حتى تركوني فلما خرجت عن جملتهم وأنا لا أصدق فلم أزل أعدوا حاسراً حتى وافيت الزنبيل فجلست فيه وصعدت السطح وصرت إلى الموضع وأقبل على مثل حالتها تلك فلما رأتني قالت: ضيفنا قلت: إيهاً لله. قالت: جعلتها دار مقام قلت: جعلت فداك حق الضيافة ثلاث ثم إن رجعت بعدها فأنت في حل من دمي. قالت: والله لقد أتيت بحجة. قال: ثم جلسنا فأخذنا في مثل حالنا الأول من الشرب والإنشاد والمذاكرة والمحادثة والغناء حتى إذا علمت أن الوقت قد قارب فكرت في قضيتي وعلمت أن المأمون لا يقارني على هذا وأني لا أتخلص منه إلا بأن أشرح له قصتي وأكشف له عن حالي وعلمت أني إن قلت له ذلك طالبني بمعرفة الموضع والمسير به إليه مع ما كان غلب عليه من الميل إلى النساء والاستهتار بهن. فقلت لها: أتأذنين في ذكر شيء خطر ببالي قالت: قل ما بدا لك. قلت: جعلت فداك إني أراك ممن يقول بالغناء ويعجب به وبالأدب ولي ابن عم هو أحسن مني وجهاً وأظرف قداً وأكثر أدباً وأغزر معرفة وإنما أنا تلميذ من تلاميذه وحسنة من حسناته وهو أعرف الناس بغناء إسحاق وأحفظهم له. قالت: " طفيلي ويقترح " لم ترض أن أتيتنا ثلاثة أيام حتى احتجت أن تأتي معك بآخر. فقلت لها: جعلت فداك ذكرته لتكوني أنت المحكمة فإن أذنت وأردت ذلك وإلا فلا إكراه. قالت: فإن كان ابن عمك هذا على ما ذكرت فما نكره أن نعرفه ونشاهده. فقلت: هو والله على أكثر مما وصفت. قالت: فإذا شئت. قلت: فالليلة. قالت: والليلة. ثم حضر الوقت فنهضت وصرت إلى البيت فما وصلت حتى وافيت منزلي قد هجم عليه وإذا برسل الخليفة وأصحاب الشرط قد ركبوا إلى بابي فلما بصروا بي سحبت سحباً على حالتي تلك حتى انتهوا بي إلى الدار فإذا المأمون جالس وسط الدار على كرسي وإذا هو مغتاط حرد فقال: يا إسحاق أخروجاً عن الطاعة قلت: لا والله يا أمير المؤمنين. قال: فما قصتك وما الذي أظهر ما أرى من الانحراف وكثرة الخلاف فاصدقني حالك. قلت: يا أمير المؤمنين إنه كانت لي قصة أحتاج فيها إلى خلوة. فأومأ إلى من كان واقفاً بين يديه فتنحوا حتى إذا خلونا قلت: كان من خبري كيت وكيت وفعلت وصنعت ورأيت كذا. فوالله ما فرغت من حديثها حتى قال: يا إسحاق أتدري ما تقول فقلت: إي والله إني لأدري. فقال: ويحك فكيف لي بمشاهدة ما شاهدت قلت: ما إلى ذلك من سبيل. قال: والله لا بد تلطف لي وتوصلني إليها فهذا ما لا صبر لعاقل عنه. قلت: إي والله قد تفكرت في قصتي وفيما قدمت عليه من عصيانك وعلمت أنه لا ينجيني إلا الصدق والكشف الحال وعلمت أنك تطالبني به أشد المطالبة فقدمت إليها ذكراً من ذلك وقلت لها كيت وكيت ووعدتها في أمرك كذا وكذا. قال: قد والله أحسنت ولولا ذلك لنلتك بكل مكروه. قلت: فالحمد لله الذي سلم. قال: ثم نهض ونهضت حتى صرنا إلى مجلسنا وأخذنا في لذتنا وشربنا وهو مع ذلك يقول: يا إسحاق حدثني عنها وصف لي حالها واشرح لي أمرها. فوالله ما قطعنا يومنا ذلك إلا بذكرها وما وصلنا إلى آخر النهار إلا والمأمون لا يصدق من شدة تعلق قلبه بها وبما قربت عنده من حالها حتى إذا كان بعد هدأة من الليل وهو يقول في كل ساعة: ما جاء الوقت وأنا أقول: بقي قليل والسعة. والقلق غالب عليه حتى إذا جاء الوقت نهضنا فخرجنا من بعض أبواب القصر ومعنا غلام وهو على حمار وأنا على حمار. فلما صرنا بالقرب من منزلها نزلنا ثم قلنا للغلام: يجب أن تظهر بري بحضرتها وإكرامي وتطرح نخوة الخلافة وتجبر الملك وكن كأنك تبع لي. وهو يقول: نعم أوترى أني أجهل وتحتاج إلى أن توصيني قال لي: ويحك يا إسحاق فإن قالت لي: عن فكيف أصنع قال: قلت: أنا أكفيك وأدفعها عن ذلك وأصدها برفق وحسن مس. ثم صرنا إلى الزقاق فإذا بزنبيلين معلقين بثمانية أحبل. فقعد في واحد وقعدت في آخر ثم جذب الجواري وإذا نحن في السطح وبادرن بين أيدينا حتى انتهين بنا إلى المجلس. قال: فأقبل المأمون يتأمل الفرش والدار والزي ويعجب بذلك إعجاباً شديداً وقعدت في موضعي الذي كنت أقعد فيه وقعد المأمون دوني في المرتبة. ثم أقبلت فسلمت فما تمالك أن نظر إليها فبهت من حسنها فقالت: حيا الله ضيفنا بالسلام والله ما أنصفت ابن عمك ألا رفعت مجلسه فقلت: ذلك إليك جعلت فداءك. فقالت: ارتفع فديتك فأنت جديد وهذا قد صار من أهل البيت ولكل جديد لذة فنهض المأمون حتى قعد في صدر المجلس ثم أقبلت عليه تذاكره وتناشده وتمازحه وهو آخذ معها في كل فن فكستها وأفحمها. قال: فالتفتت إلي وقالت: وفيت بوعدك وصدقت في قولك ووجب شكرك على صنيعك. قال: ثم أحضرنا النبيذ وأخذنا في الشراب وهي مع ذلك مقبلة عليه وهو مقبل عليها ومسرورة به ومسرور بها. قال: فالتفتت إلي فقالت: وابن عمك هذا من أبناء التجار قلت لها: نعم فديتك نحن لا نعرف إلا التجارة. قالت: وإنكما فيها لغريبان. ثم قالت: موعدك. فقلت: لعمري إنه ليجب ولكن حتى يسمع شيئاً. قال: وذاك. وأخذت العود وغنت صوتاً فشربنا عليه رطلاً ثم غنت بصوت كان المأمون يقترحه علي فشربنا عليه رطلاً قال: فلما شرب المأمون ثلاثة أرطال وغلب عليه الفرح وتداخله السرور وارتاح وطرب قال: يا إسحاق فوالله لقد رأيته نظر إلي نظر الأسد إلى فريسته فنهضت وقلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: غنني هذا الصوت. فلما رأتني أخذت العود ووقف بين يديه أغنيه علمت أنه الخليفة وأني إسحاق. فنهضت وقال: ها هنا. وأومأ إلى كل مضروبة فدخلتها ثم فرغت من ذلك الصوت وشرب رطلاً وقال لي: ويحك يا إسحاق انظر هذه الدار ومن ربها فخرجت فلقيت تلك العجوز فقلت لها: من صاحب المنزل ومن مولاكم قالت: الحسن بن سهل. قلت: ومن هذه منه قالت: ابنته بوران. فرجعت وأعلمته فقال: علي به الساعة. قال: فقلت لها: امضي فأحضريه وأعلميه أن أمير المؤمنين يطلبه. قال: فغابت عني هنيهة ثم جاءت وهو في إثرها فوقف بين يديه فقال: ألك بنت قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: أزوجتها قال: لا والله. قال: وما اسمها قال: بوران. قال: فإني أخطبها إليك. قال: هي يا أمير المؤمنين أمتك وأمرها إليك. قال: فإني قد زوجتها على نقد ثلاثين ألف دينار نحملها إليك في صبيحة ليلتنا هذه فإذا قبضت المال فاحملها إلينا من ليلتها. قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ثم نهض وفتح لنا الباب وخرجنا فلما صرنا إلى الدار قال: يا إسحاق لا يقفن أحد على ما وقفت عليه فإن المجالس بالأمانة. قلت: يا أمير المؤمنين ومثلي يحتاج إلى وصية بهذا الأمر. قال إسحاق: فما أصبحنا حتى أمر بحمل المال ونقلت إليه من يومها وكانت أحظى نسائه عنده وآثرهن لديه. وأقمت أستر هذا الحديث إلى أن مات المأمون فما اجتمع لأحد ما اجتمع لي في تلك الأربعة الأيام التي كنت أنصرف من مجلس أمير المؤمنين في خلافته إلى مجلسها. ووالله ما رأيت من الرجال في ملوكهم ولا خلفائهم ولا سوقهم أحداً يفي بالمأمون ولا شاهدت من النساء امرأة تقاربها فهماً وعقلاً وحلاوة وشكلاً وأما معرفتها وأدبها فما أظن أن في الأرض امرأة كان يتهيأ لها أن تقف من العلوم على مثل ما وقفت عليه. ولقد سألت بعض من كان يتولى خدمتها من عجائزها فقلت لها: وما حملها على ما أرى فقالت: والله إنها لتفعل هذا منذ كذا وكذا سنة. ولقد عاشرة من الظرفاء والأدباء والملاح أكثر من أن يقع عليه إحصاء وما جرى بينها وبين أحد مكروه ولا خناً ولا لفظة قبيحة ولم يكن مذهبها في ذلك إلا حب الأدب والمذاكرة لأهله والمعاشرة لأهل المروءة والأقدار وذوي النبل والأخطار لا لريبة تظهر ولا لحالة تنكر. قال: فوالله لقد تضاعف قدرها عندي وعظم خطرها في نفسي وعلمت شرف همتها وفضلها. فهذا خبر بوران صحيحاً على الحقيقة والسبب الذي تزوجها المأمون به. قال هشام بن الكلبي والهيثم بن عدي: إن ناساً من بني حنيفة خرجوا يتنزهون إلى جبل لهم فرأى فتى منهم في طريقه جارية فرمقها فقال لأصحابه: لا أنصرف والله حتى أرسل إليها وأخبرها بحبي لها. فطلبوا إليه أن يكف عن ذلك فأبى أن يكف وأقبل يراسل الجارية وتمكن حبها من قلبه فانصرف أصحابه وأقام الفتى في ذلك الجبل فمضى ليلة متقلداً سيفاً وهي بين أخوين لها نائمة فأيقظها فقالت: انصرف لا ينتبه أخواي فيقتلانك. فقال: الموت والله أهون مما أنا فيه ولكن إن أعطيتني يدك حتى أضعها على قلبي انصرفت. فأعطته يدها فوضعها على قلبه وصدره وانصرف. فلما كانت الليلة الثانية أتاها وهي على مثل تلك الحال فأيقظها فقالت له مثل مقالها الأول فقال: لك الله إن أمكنتني من شفتيك أرشفهما أن أنصرف. فأمكنته فرشفهما ساعة ثم انصرف فوقع في قلبها من حبه مثل الذي كان بقلبه منها وفشا خبرهما في الحي فقال أهل الجارية: ما مقام هذا الفاسق في هذا الجبل امضوا بنا إليه حتى نخرجه منه. فبعثت إليه الجارية آخر النهار: إن القوم سيأتونك الليلة فاحذر على نفسك. فلما أمسى قعد على مرقب ومعه قوسه وسهمه ووقع بالحي في بعض الليل مطر فاشتغلوا عنه فما كان في آخر الليل وانقشع السحاب وطلع القمر اشتاقت إليه الجارية فخرجت تريده ومعها صاحبة لها من الحي كانت تثق بها فنظر الفتى إليهما فظن أنهما ممن يطلبه فرمى فما أخطأ قلب الجارية فوقعت ميتة وصاحت الأخرى ورجعت. وانحدر الفتى من الجبل فإذا الجارية ميتة فقال: نعب الغراب بما كره ت ولا إزالة للقدر تبكي وأنت قتلتها فاصبر وإلا فانتحر ثم وجأ بمشاقصه أوداجه حتى مات فجاء أهل المرأة فوجدوهما ميتين فدفنوهما في قبر واحد.
كانت في أبي عطاء السندي لثغة قبيحة فاجتمع يوماً في مجلس بالكوفة حماد الراوية وحماد عجرد وحماد بن الزبرقان وبكر بن مصعب فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: ما بقي شيء إلا قد تهيأ في مجلسنا هذا فلو بعثنا إلى أبي عطاء السندي. فأرسلوا إليه فأقبل يقول: مرهبا مرهبا هياكم الله. وقد كان قال أحدهم: من يحتال لأبي عطاء حتى يقول: جرادة وزج وشيطان. فقال حماد الراوية: أنا. فقال: يا أبا عطاء كيف علمك باللغز قال: هسن - يريد حسن - فقال له: فما صفراء تكنى أم عوف كأن سويقتها منجلان قال: زرادة. فقال: أصبت. ثم قال: أتعرف مسجداً لبني تميم فويق الميل دون بني أبان قال: هو في بني سيتان قال: أصبت. ثم قال: فما اسم حديدة في الرمح تمسى دوين الصدر ليست بالسنان فقال: زز. فقال: أصبت. وقال المأمون يصف خاتماً: وأبيض أما جسمه فمدور نقي وأما رأسه فمعار ولم يكتسب إلا لتسكن وسطه مؤنثة لم تكس قط خمار لها أخوات أربع هن مثلها ولكنها الصغرى وهن كبار وقال آخر في أرنب: إذا السبابة ارتفعت مع الخن صر اجتمع الثلاث بلا انتكاث لهوت بها تطير بلا جناح وتنسب في الذكور وفي الإناث وقال: رب ثور رأيت في جحر نمل وقطاة تحمل الأثقالا ونسور تمشي بغير رؤوس لا ولا ريش تحمل الأبطالا وعجوز رأيت في بطن كلب جعل الكلب للأمير جمالا وغلام رأيته صار كلباً ثم من بعد ذاك صار غزالا وأتان رأيت واردة الما ء زماناً وما تذوق بلالا وعقاب تطير من غير ريش وعقاب مقيمة أحوالها الثور: النمل الذي يخرج من التراب من الجحر العظيم بفيه. والقطاة: موضع الردف من الفرس. والنسور: بطون الحوافر. والعجوز: السيف. وبطن الكلب: الجلد الذي يعمل منه غمد السيف. وصار كلباً: ضم كلباً أخذه من صار يصور من قول الله عز وجل " والأتان: الصخرة. والعقاب التي تطير من غير ريش: البكرة. والمقيمة أحوالاً: اللواء. وقال آخر في البيضة: ألا أخبروني أي شيء رأيتم من الطير في أرض الأعاجم والعرب قديم حديث وهو باد وحاضر يصاد بلا صيد وإن جد في الطلب ويؤكل أحياناً طبيخاً وتارة قلياً ومشوياً إذا دس في اللهب وليس له لحم وليس له دم وليس له عظم وليس له عصب وليس له رجل وليس له يد وليس له رأس وليس له ذنب ولا هو حي لا ولا هو ميت ألا خبروني إذا هذا هو العجب وقال آخر: إني رأيت عجوزً بين حاجبها ونابها حبشي قائم رجل له ثلاثون عيناً بين مرفقه وبين عاتقه في رجله قزل في ظهره حية حمراء قانية في ظهرها رجل في ظهره رجل العجوز: الناقة. والحبشي الذي بين حاجبها ونابها: الأسود الحابس بالخطام. وقوله: له ثلاثون عيناً بين عاتقه وبين مرفقه: مثاقيل كانت مصورة في عضده. وقوله: في ظهره حية حمراء قانية: كان عليه برنس فيه تصاوير بعضها داخل في بعض. ولا هو حي لا ولا هو ميت ولكنه شخص يرى في المجالس يزيد على سم الأفاعي لعابه يدب دبيباً في الدجى والحنادس يفرق أوصالاً بصمت يجيبه وتفرى به الأوداج تحت القلانس إذا ما رأته العين تحقر شأنه وهيهات يبدو النقس عند الكرداس وقال آخر فيه: ضئيل الرواء كبير الغناء من البحر في المنصب الأخضر عليه كهيئة مر الشجا ع في دعص محنية أعفر إذا رأسه صح لم ينبعث وحار السبيل ولم يبصر وإن مدية صدعت رأسه جرى جري لا هائب مقصر يقضي لبانته مقبلاً ويحسمها هيئة المزبر جريء بكف فتى كفه تسوق الثراء إلى المقتر أبيات من الشعر المحدث ماء النعيم بوجهه متحير والصدغ منه كعطفة للراء لو باشر الماء القراح بكفه لجرت أنامله بنبع الماء وقال المؤمل: عجبن لمن يطيبني بمسك وبي يتطيب المسك الفتيت خلاخيل النساء لها وجيب ووسواس وخلخالي صموت ولو أن النساء غنين يوماً عن المسك الذكي كما غنيت لأصبح كل عطار فقيراً قليلاً ماله ما يستبيت
|